قراءة وتبسيط دكتور مجدي
الجاكي
المكتبات العامة
عرفت الدولة الإسلامية في عصورها الأولى نوعاً
ثالثاً من أنواع المكتبات يعتبر اليوم مقياسا لرقي الأمم والشعوب وهو المكتبات
العامة التي تنشئها الدول لتسهم في زيادة رصيد أبنائها من المعرفة والثقافة، وقد
وجد هذا النوع من المكتبات في مختلف أنحاء الدولة الإسلامية منذ وقت مبكر جدا،
فصاحب "الأغاني" يحدثنا أن عبد الحكم بن عمرو بن صفوان الجمحي في العصر
الأموي (ت160هـ) اتخذ له بيتا جعل فيه شطرنجات ونردات ودفاتر فيها من كل علم، وجعل
في الجدار أوتاداً، فمن جاء علق ثيابه على
وتد منها ثم جر دفتراً فقرأه أو بعض ما يلعب به فيلعب به. قال ابن حزم: "وعبد
الحكم، كان من فتيان قريش، قد اتخذ بيتاً لإخوانه، فيه كتب العلم، والشطرنجيات،
والنرد"
ومعنى ذلك أن عبد الحكم هذا كان صاحب
فكرة أول مكتبة عامة تفتح أبوابا للجمهور. ولم تكن المكتبة قائمة بذاتها وإنما
كانت جزءا مما يمكن أن نطلق عليه بمصطلح العصر الحديث "ناديا ثقافيا"
فيه إلى جانب الدفاتر شطرنجات ونردات.
ومما ساعد على كثرة المكتبات العامة
وتراثها أن كثيراً من العلماء كانوا يوصون بأن تؤول إليها كتبهم بعد وفاتهم، كالذي
فعله الصاحب بن عباد حين أو قف مكتبته على الري.
وكانت هذه المكتبات العامة تؤدي خدمة
الإعارة، فيذكر ياقوت الحموي أن مرو كان بها في مطلع القرن السابع الهجري عشر
خزائن الوقف جميعها مجانية والإعارة فيها بدون رهن.
ومن أشهر المكتبات العامة في الدولة
الإسلامية تلك التي أساسها صابور بن أردشير وزير بهاء
الدولة البويهي في حي الكرخ ببغداد سنة 382هـ كجزء من دار العلم وأوقف عليها أو قافا
كثيرة وبلغت مجموعة كتبها عشرة آلاف مجلداً أغلبها بخطوط أصحابها، وبلغ من شهرتها
أن المؤلفين كانوا يسعون إلى إيداع نسخ من كتبهم بها وهو ما كان يسمى
"تخليدا" في اصطلاح ذلك الزمان، وهذه المكتبة رحل إليها أبوالعلاء
المعري وذكر أمناءها في "رسالة الغفران " وكان الشريف المرتضى أحد
القائمين عليها.
وثمة مكتبة أخرى ألحقها بنوعمار بدار
العلم التي أسسوها في طرابلس الشام في القرن الخامس الهجري لنشر مذهبهم الشيعي،
وحرصوا على أن يجلبوا لها نوادر الكتب ونفائس المخطوطات حتى قدر عدد كتبها في قمة
مجدها بثلاثة ملايين مجلداً، وهو رقم لا يخلو من مبالغة ولكنه يعكس ضخامة حجم هذه
المكتبة التي امتدت بها الحياة حتى أحرقها الصليبيون عندما احتلوا طرابلس في سنة 502هـ.
وهذه المكتبات العامة التي عرفتها الدولة
الإسلامية في عصورها الأولى كانت عامة بكل
معاني الكلمة، فقد كانت تقدم خدماتها من إعارة وإرشاد بلا مقابل، وكان بعضها يمضي
إلى ما هو أبعد من ذلك فيقدم لرواده الورق والمداد والأقلام كما كان يحدث في
مكتبتي البصرة ورام هرمز اللتين أنشأهما أبوعلى بن سواد (ت372هـ) أحد رجال حاشية
عضد الدولة البويهي.
بل إن بعض هذه المكتبات كانت تقدم رواتب لمن يفد إليها ويقيم فيها من طلاب
وباحثين؛ كما كان الحال في مكتبة على بن
يحي المعروف بابن المنجم، وهو من الأطباء النقلة الذين نقلوا كتب الطب وغيره من
اللسان اليوناني إلى اللسان العربي، وكان أحد كتاب المأمون وكان نديماً له وعنده
فضل ومال. ومكتبة دار العلم التي أنشأها جعفر بن محمد حمدان الموصلي بالموصل
ووقفها على كل طالب علم "لا يمنع أحد من دخولها إذا جاء غريب يطلب الأدب، وإن
كان معسرا أعطاه ورَقاً وورِقًا".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق