الثلاثاء، 28 أبريل 2015

مراحل وخطوات تحقيق المخطوطات

أ- تجميع النسخ والمقارنة بينها وتحديد منازلها.
ب- التحقيق، سواء كان تحقيقا لاسم المؤلف أو لعنوان الكتاب، أو لنسبة الكتاب إلى مؤلفه، أو للنص نفسه.  
ج- إخراج النصوص.   
        ونبدأ بالمرحلة الأولى وهي مرحلة التجميع وتحديد منازل النسخ.  ولكي نتوصل إلى معرفة النسخ المختلفة للكتاب الواحد ينبغي الرجوع إلى فهارس المكتبات والأعمال الببليوجرافية التي تحصي تراثنا المخطوط وتحدد أماكنه في مكتبات العالم مثل كتابي تاريخ الأدب العربي لكارل بروكلمان، وتاريخ التراث العربي لفؤاد سيزكين.  والكتابان يسجلان المخطوطات العربية الموجودة في مكتبات العالم تحت أسماء مؤلفيها، فكل مؤلف تذكر مؤلفاته التي وصلتنا، وكل كتاب منها تذكر نسخه والمكتبات التي توجد بها.  ويمكن تلخيص أهم الفروق بين الكتابين في النقاط التالية:
أ- أن أولهما مرتب ترتيبا زمنيا، وأن الثاني مرتب ترتيبا موضوعيا.  
ب- أن أولهما يغطي قطاعا زمنياً كبيراً يمتد من العصر الجاهلي حتى العصر الحديث، بينما يتوقف الثاني عند سنة 430هـ.  ومعنى هذا أن مجال كتاب بروكلمان أوسع من مجال كتاب سيزكين.  
ج - أن أولهما اعتمد على الفهارس المطبوعة فأغفل مقتنيات المكتبات التي لم تنشر لها فهارس، كما أغفل مجموعات المخطوطات التي لم تشملها الفهارس المطبوعة كالمكتبات الخاصة التي أضيفت إلى دار الكتب بالقاهرة، وبعضها مثل المكتبة التيمورية تضم كنوزاً من تراثنا المخطوط لا يستهان بها.  واعتماد بروكلمان على الفهارس أصاب كتابه بالنقص كما أوقعه في كل الأخطاء التي وقعت فيها تلك الفهارس سواء أكانت أخطاء في الأسماء أو في التاريخ.  أما سيزكين فقد آثر المسح الميداني ورؤية المخطوطات على الاعتماد على الفهارس المنشورة، ولهذا جاء كتابه أوفى من كتاب صاحبه بالنسبة للفترة التي يغطيها.  
        ومعنى هذا أنه بالنسبة للمؤلفات التي ترجع إلى ما قبل سنة 430هـيمكن الاعتماد على الكتابين وإن كان كتاب سيزكين أوفى وأدق من كتاب صاحبه.  أما بالنسبة لما بعد هذا التاريخ فليس أمامنا سوى كتاب بروكلمان رغم قصوره ونقصه الذي يجب أن يستوفي بالبحث في المجموعات التي لم تنشر لها فهارس، وفيما نشر من فهارس بعد تأليف بروكلمان لكتابه بملاحقه الثلاثة.  
        وفي جميع الحالات لا يستطيع باحث أن يزعم أنه قد عثر على كل نسخ الكتاب الذي يتصدى لتحقيقه.  فما أكثر المكتبات الحكومية التي لم تنشر لها فهارس حتى الآن، وما أكثر مكتبات الأفراد التي تضم مجموعات من المخطوطات لا يعرف عنها أحد سيئا.  ولعل هذا هو ما يفسر لنا ما تراه من أن الكتاب قد يحقق تحقيقا جيداً ثم يعاد تحقيقه بعد فترة حين يُعثر على نسخة أو أكثر لم تكن معروفة وقت تحقيقه في المرة الأولى.  ولقد أتاحت وسائل التصوير الحديثة فرصة الحصول على نسخ ميكروفيلمية من المخطوطات الموجودة في أي مكتبة من المكتبات، وبذلك أدت خدمة جليلة لمن يتصدون للتحقيق.  
        ويلحق بتجميع النسخ مسألة تحديد منازلها.  فليست كل مخطوطات الكتاب الواحد سواء في أقدارها، ففيها الكامل والناقص، وفيها القديم والمتأخر، وفيها الواضح والغامض، وفيها الموثق بسماعاته وإجازاته ومقابلاته وغير الموثق.  وإذا كانت أفضل النسخ هي أقدمها وأكملها وأوضحها وأوثقها، فإن هذه المواصفات قلما تجتمع في نسخة واحدة، فقد تكون النسخة الأقدم ناقصة أو متعذرة القراءة أو غير موثقة، وقد تكون النسخة الكاملة هي الأحدث والعارية من مظاهر التوثيق التي ذكرناها.  وقد توجد نسخ غير مؤرخة يصعب وضعها في مكانها الزمني بين النسخ الأخرى.  وهنا تأتي أهمية دراسة الخط والورق وتواريخ التمليكات والسماعات والإجازات وتقصي الأشخاص الذين ورد ذكرهم في السماع أو الإجازة.  
        وتحديد منازل النسخ يتمخض عن اختيار النسخة التي تتخذ أصلا للتحقيق تُقابل عليه النسخ الأخرى، كما ينتج عنه تحديد النسخ التي أخذت عن بعضها بحيث يمكن الاستغناء عن النسخ المتشابهة والاكتفاء بالأصل الذي أخذت عنه.  
        وبعد جمع النسخ وتحديد منازلها تأتي المرحلة الثانية وهي مرحلة التحقيق بكل ما ينطوي تحته من تثبت من مؤلف الكتاب وعنوانه وتحرير لنصه.  أما عنوان الكتاب واسم المؤلف فغالبا ما يذكران في المقدمة.  وفي حالة فقد أجزاء من المقدمة أو طمس إحدى هاتين المعلومتين أو جزء من أيهما كأن نعثر على عنوان الكتاب ولا نعثر على اسم المؤلف، أو نعثر على اسم الكتاب أو اسم المؤلف ناقصين، في مثل هذه الحالات يلزم الرجوع إلى الكتب الببليوجرافية التي تحصي أسماء المؤلفين والمؤلفات.  فإذا كان عندي اسم مؤلف وأريد التثبت من عنوان الكتاب يمكن الرجوع إلى فهرست ابن النديم وإلى مفتاح السعادة ومصباح السيادة في موضوعات العلوم لطاشكبري زاده وإلى هدية العارفين؛ أسماء المؤلفين وآثار المصنفين لإسماعيل البغدادي، مع التنبه إلى ما بين هذه الكتب الثلاث من تفاوت في الفترة التي يغطيها كل منها وفي طريقة الترتيب ومنهج المعالجة.  وإذا كانت المعلومة المتاحة لدىّ هي عنوان الكتاب وأريد التثبت من صحته ومعرفة مؤلفه فيمكن الرجوع إلى كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون لحاجي خليفة وذيله المسمى إيضاح المكنون لإسماعيل البغدادي.  
        أما إذا فقدت المقدمة وفقد معها اسم الكتاب واسم مؤلفه فلا سبيل إلى التعرف على شخصيته إلا من خلال قراءة النص وتحديد موضوعه، والتمرس بأساليب المؤلفين وخصائصهم، والرجوع إلى الكتب الموسوعية أو كتب التخصص التي قد تكون نقلت نصوصاً عن هذا الكتاب وسمته أو ذكرت مؤلفه.  وتلك كلها أمور تحتاج إلى خبرة واسعة بالتراث العربي وإحاطة شاملة بخصائص المؤلفين.  
فإذا اطمأننا إلى عنوان الكتاب واسم مؤلفه، انتقلنا إلى النص نفسه، فإذا كانت نسخة المؤلف هي التي ننشرها فلا مشكلة لأنها تجب كل النسخ الأخرى، أما إذا كنا أمام مجموعة من النسخ فيجب أن نرمز لكل منها برمز معين وأن نتخذ أقدامها وأوثقها وأصحها أساساً للنشر، ونقابلها بالنسخ الأخرى ونثبت الخلافات بين النسخ في الحواشي.  
        ولكن تحقيق النص ليس مجرد مقابلة عدة نسخ على بعضها، ولا هو تصويب له أو تصحيح لأخطائه، وإنما هو محاولة للاقتراب من النص الذي تركه المؤلف وافتقدناه.  ولهذا تجدر الإشارة إلى بعض المبادئ الأساسية التي ينبغي الالتفات إليها وأهمها:
1- أن المحقق ليس من مهمته تقويم النص أو تصحيح المعلومات الواردة به
2- أنه ليس من مهمته استكمال النقص الموجود في النص إلا إذا كان النص لا يستقيم دون إضافة.  وفي هذه الحال ينبغي أن توضع الإضافة بين معقوفتين.  
3- أن تتخذ هوامش الصفحات في:
أ - إثبات الخلاف بين النسخ.  
ب- تخريج النصوص، أي ردها إلى مصادرها، فإن كانت آية قرآنية ذكرت السورة التي وردت بها ورقمها فيها، وإن كان حديثا ذكر المصدر الذي ورد به، وإن كان نصاً من كتاب رجع إليه في مصدره للتثبت منه وأثبت المصدر والصفحة التي نقل عنها.  
ج- إثبات التعليقات والشروح، كالتعريف بالمواضع والأشخاص المذكورين في النص، وتفسير العبارات الغامضة التي تحتاج إلى بسط ليتسنى فهم المراد منها.  
د- التنبيه على الأخطاء العلمية التي وقعت في النص.  أما الأخطاء الإملائية واللغوية فتصوب في مواضعها ما لم تكن النسخة التي ننشرها هي أصل المؤلف.  ففي هذه الحال يستبقى الرسم الإملائي كما هو، وتستبقى الأخطاء اللغوية والنحوية كما هي لأنها جزء من تكوين المؤلف ودليل على ثقافته.  ومع ذلك فينبغي التنبيه إلى الصواب في الحاشية.  
هـ- ربط أجزاء الكتاب بعضها ببعض، بالإشارة إلى ما سبق أو ما سيأتي من الكتاب مما له علاقة بموضوع الحديث.  
ويشفق البعض على هوامش الصفحات من أن تنوء بهذا العبء الثقيل فيرى أن تقتصر على إثبات الخلافات بين النسخ، وأن تجمع التعليقات في أواخر الفصول.  وذلك رأي يهتم بالناحية الشكلية على حساب الجانب الموضوعي.  ولا شك أن الأفضل يذكر كل شيئ في موضعه وأن يحرص المحقق على عدم الإسراف في التعليق والشرح.  
        وبعد الفراغ من تحقيق النص وتحريره نأتي إلى المرحلة الثالثة وهي مرحلة الإخراج والنشر، فالنص ينبغي أن يكون معداً إعداداً جيداً من حيث تنظيم الفقرات وترقيم الحواشي واستخدام علامات الترقيم وضبط الألفاظ التي قد تلتبس على القارئ وخاصة أسماء الأشخاص والأماكن.  وينبغي أيضاً أن يقدم له بمقدمة عن المؤلف وعن الكتاب وأهميته ومنهجه وموضعه بين المؤلفات في مجاله، وعن النسخ التي اعتمد عليها في التحقيق وخصائص كل منها، والرمز الذي رمز به إلى كل منها، والمنهج الذي اتبع في التحقيق.  وإذا كان الكتاب قد سبق تحقيقه أو نشره فينبغي أن تذكر الأسباب التي دعت إلى إعادة التحقيق والنشر.  وغالباً ما تتضمن المقدمة بعض لوحات مصورة لصفحات من النسخ التي اعتمد عليها في التحقيق.  وطبيعي أن تختار الصفحات ذات الأهمية كصفحة العنوان أو المقدمة أو الخاتمة، فهذه الصفحات هي الأماكن التي يذكر فيها –عادة- اسم الكتاب واسم المؤلف والناسخ وتاريخ النسخ، كما أنها المواضع التي تثبت فيها التمليكات والسماعات والإجازات غالباً، فضلاً عن أنها تكشف عن خطوط النَّسخ وما أصابها من أعراض التقادم والبلى.
        كذلك ينبغي أن يختم الكتاب بمجموعة من الكشافات الهجائية التي تحلل محتوياته وتيسر استخدامه ككشافات الأعلام والأماكن والأحداث التاريخية والآيات القرآنية والأحاديث النبوية وغيرها من أنواع الكشافات التي تحددها طبيعة الكتاب ومجال تخصصه.  فكتاب في التاريخ –مثلاً- يلزمه كشافا الأحداث التاريخية والمواضع الجغرافية أكثر من غيرهما من الكشافات، وكتاب في الفقه يحتاج إلى كشاف للآيات القرآنية وآخر للأحاديث النبوية، وكتاب في الشعر يصبح كشاف القوافي أهم الكشافات بالنسبة لمن يستخدمه، وهكذا.  
        ولعله قد اتضح مما تقدم أن التحقيق يحتاج إلى العلم والخبرة معاً.  العلم باللغة العربية أولاً مهما كان تخصص الكتاب المحقق، والعلم بالموضوع الذي يعالجه المخطوط، وبأسلوب المؤلف وخصائصه ولوازمه، وبطرق التأليف وإخراج الكتب في العصور القديمة، فبعض الكتب ألفها أصحابها وتركوها مسودات بيضها تلاميذهم أو وراقوهم فأخطأوا فيها وزادوا عليها، وبعضها أملاها أصحابها فاختلفت النسخ باختلاف السامعين.  بل إن بعض المؤلفين ألف كتابه أكثر من مرة وأصدره أكثر من إصدارة، وبعضهم أملى كتابه في أكثر من مكان فاختلفت النسخ زيادة ونقصانا.  وإذا لم يتنبه المحقق إلى ذلك وقع في عنت كبير.  
        كذلك يحتاج التحقيق إلى معرفة أنواع الخطوط ورموز الكتابة كعلامات الحذف والإلحاق والإهمال والتمريض والتقديم والتأخير والاختصار.  فالشدّة المفتوحة –مثلا- ترسم في بعض المخطوطات المغربية كالعدد 7، بينما ترسم الشدّة المضمومة كالعدد 8، أما المكسورة فيعبر عنها برقم 8 يوضع تحت الحرف. وفي بعض المخطوطات ترسم الشدّة المفتوحة فوق الحرف وتحتها فتحة هكذا (اللَّيل) أما الشدة المكسورة فترسم كسرتها تحت الحرف كما في كلمة (الشِّعر).  ومعرفة هذه الأمور وأمثالها ضرورية لقراءة النص وفهمه.  بل إنها قد تساعد على تحديد زمان المخطوط ومكانه.  
        وأخيرا فإن على المحقق أن يطلع على كل ما عمل حول الكتاب الذي يحققه من شروح أو اختصارات مستعينا في التعرف عليها بكتاب كشف الظنون وذيله، وأن يكون على علم بمراجع التحقيق وخاصة معاجم اللغة وببليوجرافيات التراث العربي والمراجع الأساسية في مجال تخصص الكتاب المحقق، لأن هناك احتمالا كبيراً بأن يكون قد نقل عن بعض هذه الكتب أو أن يكون بعضها قد نقل عنه.  وقد يساعد الرجوع إليها في مراجعة النصوص وإكمال نقصها وتصويب خطئها وخاصة الأخطاء الناتجة عن التصحيف والتحريف.     

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق