الوراقة الإسلامية
نتيجة
لتوفر الورق في العالم العربي، وبأسعار زهيدة، فقد شاع استعماله على نطاق واسع في
التدوين؛ فكثرت بذلك الكتب تدويناً، وتأليفاً، ونقلاً. وأصبحت هناك حوانيت كثيرة للمتاجرة بالكتابة
والكتب، وأدوات الكتابة من أوراق، وأحبار وأقلام؛ وظهرت تبعاً لذلك مهنة الوراقة،
التي كانت تقوم مقام الطباعة والنشر في وقتنا الحاضر.
أدى
الورق والوراقون دوراً بارزاً وهاماً في نشر الثقافة والعلوم؛ وأخذ الناس بجميع فئاتهم
من حكام، وأمراء، ووزراء، وعلماء، وأدباء وطلبة علم يتسابقون على شراء الكتب فكان
ذلك سبباً جوهرياً في انتشار حوانيت الوراقين في شوارع بغداد، حيث قُدر عددها في
القرن الثالث للهجرة بأكثر من مائة حانوت.
لم تكن تلك الحوانيت مجرد دكاكين لنسخ
وبيع الكتب وأدوات الكتابة؛ بل كانت أيضا مجالس ثقافية يرتادها العلماء والأدباء
والشعراء من أمثال الجاحظ، والمتنبي، وابي الفرج الأصفهاني. ويقال أن الجاحظ كان يكتري حوانيت الوراقين
ويبيت فيها للنظر.
أول من امتهن الوراقة في الإسلام كما تشير
بعض المصادر التاريخية هو مالك بن دينار البصري (ت 130 هـ) وكان عالماً زاهداً،
اشتهر بحسن الخط، فانقطع لكتابة المصاحف بالأجرة. لكن النديم يذكر أن مالكاً هو أحد اثنين كانا
يكتبان المصاحف في الصدر الأول، أولهما واسبقهما هو خالد بن أبي الهياج، الذي كان
يوصف هو الآخر بحسن الخط وجماله. وهذا
يعني أن الوراقة كانت موجودة قبل العصر العباسي وإن على نطاق ضيق جداً؛ فلما ظهر
الورق وانتشر استعماله بكثرة، أخذت هذه الصنعة –أي الوراقة- هي الأخرى بالانتشار.
كانت الوراقة مهنة عظيمة وجليلة بل
ومحترمة زاولها إلى جانب المحترفين بها رجال فضلاء وعلماء أجلاء؛ لهم مؤلفات
مشهورة؛ نذكر منهم أبا الفرج محمد بن إسحاق النديم صاحب كتاب "الفهرست"
وياقوت الحموي صاحب كتاب "معجم الأدباء" وأبا حيان التوحيدي صاحب كتاب
"الإمتاع والمؤانسة".
كان لمشاهير المؤلفين أنفسهم وراقون خاصون.
وكان بعض الوراقين يسعون إلى المؤلفين
للحصول منهم على حق التوريق لمؤلفاتهم فيقومون بعد الموافقة على ذلك بنسخها
وتجليدها –أحياناً- ومن ثم تسويقها؛ فكان أبو يحيى زكريا بن يحيى بن سليمان؛ وأبو
القاسم عبد الوهاب بن أبي حية يورقان للجاحظ. كما كان اسماعيل بن أحمد الزجاجي يورق للمبرد.
أصبح الإقبال على شراء الكتب أكثر من طاقة
الوراقين أنفسهم على تلبيته؛ إذ لم يكونوا بمفردهم قادرين على تأمين احتياجات
الناس، وخاصة الطلبات العاجلة من المؤلفات القيمة؛ فاضطروا إلى استئجار أشخاص
لاستنساخ الكتب التي يكون الإقبال علها كثيراً. يقول الدكتور محمد ماهر حمادة: ". . لقد وجد أفراد عندهم نساخ اختصوا بهم. فكانوا ينسخون لهم الكتب ويستلمون منهم الجرايات.
. . ؛ وقد ارتبطت مهنة النسخ بالوراقة، ويرد هذا التعبير كثيراً في كتب التراث
"وكان يورق بأجرة" ويقصد به وكان ينسخ للوراقين بأجرة ".
اشتهر كثير من الوراقين المحترفين إلى
جانب سعة علمهم بحسن الخط، فسليمان بن محمد الحامض –وكان وراقاً لثعلب- إشتهر بصحة
الخط وحسن المذهب في الضبط. ويشير النديم
إلى أن الوراق محمد بن عبد الله الكرماني كان مضطلعاً بعلم اللغة والنحو، مليح
الخط، صحيح النقل، يرغب الناس في خطه. وكما تنافس الوراقون على المؤلفين تنافسوا أيضاً
على تحسين خطوطهم؛ إذ أخذوا يدخلون على ما ينسخون من المؤلفات تحسينات زخرفية،
ولمسات جمالية تجعل عملهم مميزاً وذلك بغية جذب المؤلفين والمشترين إليهم.
ومن هنا يمكن القول بأن جمال الخط وصحة
النقل ودقة الضبط كانت من متطلبات النجاح في مهنة الوراقة.
أصبحت
الوراقة مصدراً للرزق عند المتخصصين فيها فازدهرت هذه الصنعة بكثرة المؤلفات
وارتفاع أور النسخ؛ فابن شهاب العكبري (ت428هـ) يقول أنه كان يشتري الكاغد بخمسة
دراهم فيكتب فيه ديوان المتنبي في ثلاث ليال ثم يبيعه بمائتي درهم وأقله بمائة
وخمسين درهماً.
لكن
الوضع السابق لم يدم طويلاً إذ لم تعد الوراقة تُدر إلا ربحاً ضئيلاً؛ وفي ذلك قال
الشاعر الأندلسي أبو محمد عبد الله البكري، وكان وراقاً:
أما
الوراقة فهي أنكد حرفة. . . أوراقها
وثمارها الحرمان
شبهت صاحبها بصاحب إبرة. . . تكسو العراة وجسمها عريان.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق