تاريخ
الكتب في الحضارة الإسلامية
المكتبات في الإسلام نتاج لحضارة الإسلام وانعكاس لها، وقد
ساهمت في توسيع نطاق هذه الحضارة وتغذيتها وترقيتها، ولذلك عندما اتسع أفق المسلمين العقلي وازدهر
تقدمهم الحضاري وتنوعت اهتماماتهم زاد بنفس النسبة عدد المكتبات وتنوعت أغراضها
حتى شملت جميع الأغراض التي تؤسس المكتبات من أجلها.
وتاريخ الكتب والمكتبات عند المسلمين جزء من تاريخ الإسلام
والدولة الإسلامية. فقد كان العرب في جاهليتهم أمة لا تقرأ ولا تكتب، ولعلهم لم
يعرفوا من الكتب في ذلك الزمان الغابر غير كتب الدين بدليل إطلاق تعبير "أهل
الكتاب" في القرآن الكريم على اليهود و النصارى.
ولقد عرف المسلمون الأوائل المكتبات عن طريق الحضارات التي
سبقتها؛ كحضارة الفرس، وحضارة الروم، والحضارة اليونانية، وغيرها؛فلقد كان في بلاد
الفرس حركة علمية وثقافية كبرى، نتج عنها الكثير من المكتبات التي اشتملت على
الكثير من المخطوطات في العديد من فروع المعرفة، انتقلت هذه الحركة العلمية من
الفرس إلى العرب بحكم ما بينهم وبين الفرس من صلات اجتماعية وتجارية، كذلك تأثر
المسلمون تأثراً كبيراً بالحضارة اليونانية.
وقد ظهرت المكتبة الإسلامية
نتيجة لعوامل، منها:
1)
ازدياد حركة الفتوحات الإسلامية واتصال المسلمين بغيرهم من الشعوب ذوي الحضارات،
والتعرف على ثقافات هذه الشعوب وحركتها العلمية.
2)
النمو المتزايد في حجم المؤلفات والمترجمات الإسلامية، الذي نتج عن حث الإسلام على
العلم والتعلم؛ فلقد كان القرآن الكريم فتحاً جديداً ورائعاً لا في تاريخ العقيدة
فحسب، وإنما في تاريخ المعرفة الإنسانية كلها، فهو قد كرم العلم والعلماء وأقسم في
محكم آياته بالكتاب المسطور وبالقلم وما يسطرون، وكلنا يعرف أن الرسول صلى الله
عليه وسلم جعل فداء أسرى المشركين من قريش في غزوة بدر أن يعلم الواحد منهم عشرة
من صبيان المسلمين القراءة والكتابة.
3)
تشجيع الخلفاء والحكام المسلمين للعلم والعلماء.
4)
انتشار صناعة الورق في بغداد والبلا د الأخرى.
5)
ظهور حركة الوراقين وهم أصحاب الحوانيت أو الدكاكين التي كانت تنسخ وتبيع وتؤجر
الكتب.
لهذه الأسباب وغيرها نجد في الإسلام الأنواع المتعددة من
المكتبات العامة للجمهور على مختلف أنواعه وأجناسه وثقافته، والمكتبات الخاصة،
والمكتبات الملحقة بالمساجد، والمكتبات المتخصصة التي تبحث في فروع معينة من
العلوم، ومكتبات المدارس والجامعات، وغير ذلك.
بداية
التدوين عند المسلمين:
لم يهتم المسلمون بشيء كما اهتموا بتدوين كتاب الله وضبط آياته
حتى لا يلحن فيه غير العرب من المسلمين، ولهذا كان المصحف الشريف أول كتاب ظهر في
لغة العرب، ثم بدأت التآليف العربية تخرج إلى حيز الوجود قبل أن ينتصف القرن الأول
الهجري.
فابن النديم يذكر أن عبيد بن شرية الجرهمي (ت67هـ) وفد على معاوية
فسأله عن الأخبار المتقدمة وملوك العرب والعجم وسبب اختلاف الألسنة وأمر افتراق
الناس في البلاد- وكان قد استحضره من صنعاء اليمن –فأجابه إلى ما سأل فأمر معاوية
أن يدون ذلك وينسب إلى عبيد.
ويذكر المسعودي أن معاوية كان "ينام ثلث الليل ثم يقوم
فيقعد فيحضر الدفاتر فيها سير الملوك وأخبارها والحروب والمكائد فيقرأ ذلك عليه
غلمان له مرتبون وقد وكلوا بحفظها وقراءتها".
ويروي ابن سعد في طبقاته عن هشام بن عروة أن أباه عروة بن
الزبير أحرق يوم الحرة (ت94هـ) كتب فقه كانت له.
ويروي أيضاً عن موسى بن عقبة أنه قال: وضع عندنا كريب بن أبي
مسلم (ت98هـ) حمل بعير من كتب ابن عباس.
شيوع
الكتب بين المسلمين:
ولا نكاد نصل إلى
أوائل القرن الثاني حتى نجد الكتب فقد كثرت وشاعت بين الناس. فابن خلكان يذكر أن
ابن شهاب الزهري (ت124هـ) كان إذا جلس في بيته وضع كتبه حوله واشتغل بها عن كل شيء
من أمور الدنيا حتى قالت له امرأته ذات يوم والله لهذه الكتب أشد علي من ثلاث
ضرائر.
ويروي الجاحظ أن الكتب التي كتبها أبو عمرو بن العلاء (70- 154هـ)
عن العرب الفصحاء قد ملأت بيتا له إلى قريب من السقف.
حركة
التدوين:
ولقد شهد هذا القرن الثاني بداية حركة للتدوين التي تمثلت في
جمع الحديث النبوي ومن بعده المغازي والسير على أساس أنها تخدم النص القرآني
وتساعد على فهمه وتقريبه إلى الأذهان. ثم تتابع التأليف في مختلف فروع المعرفة،
ولم يلبث العرب أن أحسوا بالحاجة إلى تدوين تراثهم وتاريخهم فظهرت كتب اللغة
والشعر والتاريخ متأثرة في أول أمرها
بطريقة التأليف في الحديث، فكان الإخباريون خاصة لا يسوقون خبرا إلا مشفوعا بسلسلة
الأسانيد التي تكشف عن مدى الثقة به والاطمئنان له.
حركة
الترجمة:
وكذلك شهد القرن الثاني البدايات الأولى لحركة الترجمة؛ فابن
جلجل يروي في طبقات الأطباء أن كتاب أهرن بن أعين القس في الطب قد ترجم إلى اللغة
العربية في عهد مروان بن الحكم الخليفة الأموي، وأن عمر بن العزيز أخرجه إلى الناس
للانتفاع به. ومعنى هذا أن حركة الترجمة التي بلغت ذروتها في عصر الخليفة العباسي
المأمون قد امتدت جذورها إلى عصر بني أمية. ولا عجب في ذلك فقد كانت هذه الحركة
وليدة اتصال العرب بعد الفتوحات بالحضارات الأخرى كالحضارة اليونانية في مصر
والشام، والحضارة الفارسية في إيران، والحضارة السريانية في العراق وما بين
النهرين.
ولكن كتب القرن الأول وأوائل الثاني لم تكن في معظمها سوى
مباحث مفردة لا يتجاوز كل منها حدود المسألة التي يناقشها و ما يتصل بها أو يدور
حولها؛ فكان الكتاب بمثابة فصل من فصول كتاب من الكتب الحديثة. ومثال ذلك
"مسائل نافع بن الأزرق" التي تنسب إلى ابن عباس.
مجالس الإملاء:
بظهور
مجالس الإملاء في القرن الثاني بدأ التأليف يتجاوز حدوده القديمة، وأصبح العالم لا
يلتزم بموضوع محدد وإنما يتعرض لأكثر من موضوع ويتناول أكثر من فن من فنون المعرفة
في المجلس الواحد لأن المحاضرات أو حلقات الدرس لم تكن معدة ولا مكتوبة وإنما كانت
تخضع للارتجال والظروف، وكان سائر الأئمة يتكلمون من حفظهم أو يروون العلم من صحف
غير مرتبة، كما يقول الذهبي.
وقد
أدى انتشار مجالس الإملاء وضخامتها إلى ظهور "طبقة المستملين"
الذين يرددون كلمات الشيخ وراءه حتى تسمع جموع الحاضرين التي كانت تبلغ عشرات
الألوف في بعض الأحيان كما كان الحال في مجلس سليمان بن حرب الواشجي (140- 224هـ)
الذي يروي الخطيب البغدادي أن أربعين ألف رجل كانوا يحضرونه، ومجلس عاصم الواسطي (ت221هـ)
الذي كان يضم أكثر من مائة ألف شخص.
وكان
من ثمار مجالس الإملاء هذه ظهور كتب كثيرة باسم الأمالي أفرد لها حاجي
خليفة فصلا خاصا بها في كتابه كشف الظنون، ومن أشهرها أمالي القالي وثعلب والزجاج
وابن دريد وبديع الزمان الهمذاني وغيرها.
وقد
ظل الإملاء هو الطريقة الشائعة في التأليف طوال القرنين الثالث والرابع الهجريين،
حتى لقد كان ينص على الكتب أو أجزاء الكتب لم يمليها صاحبها، فياقوت يحدثنا عن
كتاب "أدب النفوس الجيدة والأخلاق النفسية" للطبري فيقول إن المؤلف قطع
الإملاء في بعض الكلام في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وكان ما خرج منه
خمسمائة ورقة وكان قد عمل أربعة أجزاء. ولم يخرجها إلى الناس في الإملاء.
ازدهار
حركة التأليف:
وخلال القرنين الثالث
والرابع الهجري ازدهرت حركة التأليف ازدهارا رائعا، يدفعها ويمدها بأسباب الخصب
والنماء إقامة صناعة الورق في بغداد ابتداء من عصر الرشيد (حوالي 870م حوالي القرن
الثالث الهجري)، وظهور طبقة جديدة في المجتمع العربي تعرف بطبقة الوراقين
تمارس صناعة الوراقة وهي-كما يعرفها ابن خلدون- عملية "الانتساخ والتصحيح
والتجليد وسائر الأمور الكتبية والدواوين". ففي بغداد وحدها وجدت سوق كبيرة
للوراقين كان بها أكثر من مائة حانوت للوراقة في القرن الثالث الهجري وملتقى
الطبقات المثقفة. وبعبارة أعم نستطيع أن نقول إنها كانت مركزاً للنشاط العقلي
ومستودعا لكل ما أنتجته العقلية الإسلامية في شتى فروع المعرفة.
كثرة
المؤلفات:
ولولا انتشار الورق وظهور صناعة الوراقة لرأينا حركة التأليف
مغلولة الخطى، ولما رأينا للإمام الشافعي (ت204هـ) أكثر من مائة مؤلف، ولجابر ابن
حيان (ت200هـ) أكثر من ثلاثمائة كتاب، ولما استطاع الجاحظ(ت255هـ) أن يؤلف أكثر من
مائة وعشرين كتاباً ذكرها في أول كتابه الحيوان، ولما بلغت مصنفات الطبيب الفيلسوف
محمد بن زكريا الرازي (ت311هـ) مائتين وخمسين مصنفا.
والواقع أن المؤلفات كانت قد كثرت في هذا العصر لدرجة باهرة فقد
أحصى ابن النديم للمدائني (ت225هـ) 227
كتاباً في الأخبار، وللكندي (ت260هـ) ما يقرب من 250 كتاباً في الفلسفة والمنطق
والهندسة والحساب والفلك والموسيقى والسياسة وغيرها. وذكر أبو العباس ثعلب أنه رأى
لإسحق بن إبراهيم الموصلي (ت235هـ) ألف جزء من لغات العرب كلها بسماعة.
وروى ياقوت الحموي أن الأصمعي خرج مع الرشيد يوما فلقي
إسحق فسأله إن كان حمل معه شيئا من كتبه، فقال إسحق : حملت ما خف. فسال الأصمعي: كم
مقداره؟ فرد إسحق قائلا: ثمانية عشر صندوقا. فعجب الأصمعي وقال:إذا كان هذا ما خف،
فكم يكون ما ثقل؟ فقال: أضعاف ذلك.
ومن أراد أن يرى الصورة الكاملة لضخامة حركة للتأليف العربية
في تلك الحقبة من التاريخ فليرجع إلى فهرست ابن النديم الذي يعتبر في حد ذاته
دليلا حياً وملموساً على كثرة المصنفات والمترجمات في هذه الفترة.
ضخامة
المؤلفات العربية:
ولم تكن كثرة الكتب وحدها هي التي تلقت النظر في هذا العصر فقد
يقال إنها كانت مباحث صغيرة لا يتجاوز
منها بضع أوراق ولكن الشيء الذي يسترعي الانتباه حقا أن كثيراً من هذه المصنفات
كان يقع في مجلدات ضخمة.
ويكفى أن نشير إلى تفسير الطبري لمحمد بن جرير الطبري (224 - 310 هـ) (24 جزءاً
في أكثر من سبعمائة صفحة) وإلى كتاب "الأغاني" لأبي الفرج الأصفهاني (200
صفحة) وكتاب" مروج الذهب" الذي ألفه المسعودي في ثلاثين مجلدا ثم اختصره
إلى الحجم الحالي (216 صفحة) وكتاب "السماء والعالم" الذي ألفه أحمد بن
أبان (ت382هـ) صاحب شرطة قرطبة والذي يقول عنه المقري إنه "مائة مجلد رأيت
بعضه بفاس"، وكتاب "غريب الحديث" لأبي بكر الأنباري (ت327هـ) الذي يروي
ياقوت أنه كان يقع في خمس وأربعين ألف ورقة. فهذه الكتب التي ذكرناها تعطينا صورة
لضخامة المؤلفات في القرنين الثالث والرابع على وجه الخصوص.
الشغف
بالقراءة:
وليست كثرة التأليف وضخامتها وحدها هي كل ما يبهرنا في هذا
العصر، فقد كان يقابلها شغف شديد بالقراءة ينبغي أن نسجله بالفخر والإعجاب لأنه هو
الذي كان يدفع عجلة التأليف ويمدها بأسباب القوة والانطلاق. ولقد بدأ هذا الشغف مع
بداية حركة التأليف والترجمة، أو إن شئنا الدقة قلنا إنه بدأ قبله ومهد لها وكان
مسببا لها ودافعا قويا من دوافع وجودها.
ويكفي أن نذكر هنا
رجلاً كالجاحظ(ت255هـ) الذي كان يسـتأجر
دكاكين الوراقين ويبيت فيها للقراءة والبحث، والذي كان يجلس ومن حوله الكتب قائمة
فسقطت عليه في آخر أيامه وهو مريض فلم يستطع أن ينهض من تحتها ومات ضحية هوايته
المفضلة.
الإنفاق
على الكتب بسخاء:
كانوا القوم ينفقون
على الكتب بسخاء؛ فقد ذكر أبو نعيم الأصفهاني أن أبا جعفر أحمد المديني (ت272هـ)
جمع كتباً كثيرة أنفق عليها نحواً من ثلاثمائة ألف درهم.
وفي سنة 312 هـ توفى
محمد بن نصر الحاجب وخلف كتبا بأكثر من ألفي دينار. وكان لأبي بكر الصولي(ت336هـ)
بيت عظيم مملوء بالكتب.
ولما مات أبوجعفر بن الجزار في النصف الثاني من القرن الرابع
وجد له خمسة وعشرون قنطارا من كتب طبية وغيرها. وبلغ فهرست كتب الصاحب بن عباد (ت385
هـ)عشرة مجلدات، وبلغت كتبه من الكثرة لدرجة أن ما كان عنده من كتب العلم خاصة كان
يحتاج لأن يحمل على أربعمائة بعير أو أكثر كما يذكر ياقوت.
ولقد تحدث آرثر بوب عن كتب الصاحب بن عباد فقال بحق
إنها " كانت من الكثرة بحيث تعادل ما كان موجودا في مكتبات أوربا مجتمعة".
ويُعبر ويل ديورانت
عن الحياة الثقافية في العالم الإسلامي في
كتابه قصة الحضارة، فيقول: " لم يبلغ الشغف باقتناء الكتب في بلد آخر من بلاد
العالم- اللهم إلا في بلاد الصين في عهد منج هو انج- ما بلغه في بلاد الإسلام في
القرن الثامن والتاسع والعاشر والحادي عشر الميلادي؛ ففي هذه القرون الأربعة بلغ
الإسلام ذروة حياته الثقافية، ولم يكن العلماء في آلاف المساجد المنتشرة في البلاد
الإسلامية من قرطبة إلى سمرقند يقلون عن عدد ما فيها من الأعمدة، وكانت إيواناتها
تردد أصداء علمهم وفصاحتهم، وكانت طرقات الدولة لا تخلو من الجغرافيين والمؤرخين
وعلماء الدين، يسعون كلهم إلى طلب العلم والحكمة، وكان بلاط مئات الأمراء يردد
أصداء قصائد الشعر والمناقشات الفلسفية. ولم يكن أحد يجرؤ على جمع المال دون أن
يعين بماله الآداب الفنون".
ظاهرة
إتلاف المؤلف لكتبه:
إلى جانب هذا الاهتمام الشديد بالكتب كان هناك شيء غريب ألا
وهو ظاهرة إقبال بعض المؤلفين وجماعي الكتب على إحراق كتبهم النار أو غسلها بالماء
أو دفنها في باطن الأرض، وقد مر بنا أن
عروة بن الزبير بن العوام أحرق يوم الحرة كتب فقه كانت له، وأن أبا عمرو
بن العلاء أحرق كتبه عندما تنسك في أخريات أيامه. وهذا ابن سعد يروي في طبقاته
أن الحسن البصري أحرق كتبه لما ثقل عليه المرض قبل موته في سنة 110هـ. ويرى
الخطيب البغدادي أن محمد بن عمر الجعابي الحافظ البارع
العلامة، قاضي الموصل (المتوفى سنة 355) أوصى بان تحرق كتبه "فأحرق جميعها
وأحرق معها كتباً لناس كانت عنده" ويذكر أبو حيان التوحيدي أن داود الطائي
طرح كتبه في البحر، بينما مزق سفيان الثوري ألف جزء وطيرها في الريح، وحمل يوسف
بن أسباط كتبه إلى غار في جبل وطرحها فيه وسد بابه. أما أبوحيان نفسه
فقد قضى على كتبه في آخر أيامه بأن أحرق بعضها وغسل بعضها الآخر.
أمكن حصر ست وستين حالة لإتلاف المؤلفين لكتبهم، موزعة على مدى
أربع عشرة قرناً، بدءاً من القرن الأول الهجري وحتى القرن الرابع عشر الهجري،
موزعة على سبع دول، وثمانية تخصصات علمية.
ويجب أن نلفت النظر إلى تلك الظاهرة الغريبة جديرة بالاهتمام،
خاصة إذا عرفنا أنها تكررت في تاريخ الكتب عند الغربيين في القرن الثاني عشر
الميلادي، عندما كان الرهبان في الأديرة المسيحية يحرقون كتبهم ربما لنفس الأسباب
التي كان المسلمون يحرقون كتبهم من أجلها.
مبررات الإتلاف:
ولقد تعددت مبررات إتلاف المؤلفين
لمؤلفاتهم في التراث العربي؛ أول هذه المبررات وأكثرها: الرغبة في التفرغ للعبادة،،
ثاني هذه المبررات: الرجوع عما فيها؛ إما لخطأ علمي، أو ندم عما كتبوه، أو لعدم
رضاهم عنها، ثالثها خوفهم من تحريفها بعد موتهم، رابعها: خوف الاتكال على الكتاب
وإهمال الحفظ، خامسها: ضنهم بها على غيرهم، سادسها: اتهام المؤلف نفسه بعدم
الإخلاص في تأليفها، سابعها: الرغبة في عدم اتخاذ كتاب مع كتاب الله تعالى،
ثامنها: الإصابة بمرض الاكتئاب، تاسعها: كلام شيخه عن أحد الصحابة بأسلوب غير
لائق، عاشرها: إرضاء لشيخ آخر ليحدثه، وأما المبرر الحادي عشر والأخير فقد كان
الرغبة في التبرك بدفنها معه.
طرق الإتلاف:
لم يقتصر المؤلفون في إتلاف مؤلفاتهم
على طريقة واحدة للإتلاف، بل تعددت هذه الطرق من تخصص علمي لتخصص آخر، ومن حقبة
زمنية لحقبة أخرى، بل أحياناً من مؤلف لمؤلف آخر، وصلت طرق الإتلاف إلى سبع طرق،
الأولى: الدفن واستخدمها عشرون مؤلفاً والثانية: الحرق ، والثالثة: الغسل، والرابعة:
الإغراق، والخامسة: المحو، والسادسة: التخريق، والسابعة: التقريض.
ولكن تلك الظاهرة الغريبة لا ينبغي لها أن تلفتنا عن الصورة
المشرفة لحركة التأليف والترجمة التي بدأت في عصر بني أمية ثم نشطت نشاطا رائعا في
عصر بني العباس، وآتت ثمارها في شكل مكتبات عظيمة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق