التأليف
والإملاء عند العرب
التأليف هو أن يعكف العالم على جمع
مادة كتابه، وتدوينها؛ ثم مراجعتها بهدف تهذيبها، وتنقيحها، وإضافة ما ينبغي إضافته،
وحذف ما لا فائدة منه؛ فإذا ما أكمل المؤلف (الكتاب) بالصورة التي يرتضيها العالم
أخرجه إلى الناس.
أما الإملاء ، فهو ثمرة مجالس
العلماء مع طلبة العلم. وكانت هذه الطريقة
تتم --غالبا- في الجوامع والمساجد.
ومجالس الإملاء هذه تشبه إلى حد ما تلك
الدروس التي يلقيها في أيامنا هذه بعض العلماء في عدد من المساجد والجوامع الكبيرة
كالمسجد الحرام في مكة، والمسجد النبوي الشريف في المدينة المنورة، والجامع الأزهر
في القاهرة.
والإملاء هو أن يقعد عالم من العلماء،
ويحيط به مجموعة متفاوتة العدد من التلاميذ؛ معهم الأقلام، والمحابر، والقراطيس؛ فيتكلم
العالم بما فتح الله عليه من العلم؛ فيقوم التلاميذ بكتابة ما يلقيه عليهم العالم؛
فيصير – في الغالب – كتاباً. وقديماً
كانوا يُسمون ما تتمخض عنه تلك المجالس ب "الأمالي"، فالأمالي هي إذن
نتيجة مجالس الإملاء.
ومن المؤلفات التي حملت هذا المسمى (أمالي
ثعلب) و (أمالي أبي علي القالي)، و (أمالي الزجاج). ولقد أورد حاجي خليفة في كتابه (كشف الظنون)
فصلاً كاملاً عن الأمالي.
وكان طالب العلم الذي يحضر مثل تلك
المجالس يكتب –عادة- في أول ل مجلس، الصيغة التالية: مجلس أملاه الشيخ. . . بجامع كذا، أو مسجد كذا، في يوم. . . الموافق. . . ، ثم يورد ما ألقاه شيخه في ذلك
المجلس.
تلك المجالس الفكرية لم يكن التحدث فيها
متاحاً لمن هب ودب؛ فلم يكن يتصدى للإملاء فيها إلا من وثق بنفسه، وقدرته العلمية،
وكفاءته اللغوية والفكرية؛ واشتهرت أيضاً سمعته؛ ووثق به الناس؛ وشهدوا له بالفضل،
والأمانة، وغزارة العلم.
منذ القرن الثالث للهجرة كانت مجالس
الإملاء تنتشر في الحواضر الإسلامية؛ وإن كان ثقل تلك المجالس متمركزاً في بغداد. ولا غرابة في ذلك فبغداد مقر الخلافة، ومركز
الحركة العلمية؛ حيث كان العلماء والأدباء، وطلبة العلم يقصدونها من شتى أرجاء
العالم العربي والإسلامي؛ وذلك لما يجدونه من خدمات وتسهيلات، ودعم، وتشجيع من
الخلفاء، والأمراء، والوزراء.
كان عدد طلبة العلم في تلك المجالس متفاوت؛
غير أن المصادر تشير إلى أرقام كبيرة قد لا يصدقها العقل؛ إذ لا تخلو –كما اعتقد-
من المبالغة. فمثلاً مجلس سليمان بن حرب
الواشجي (ت 224هـ) يقال أنه كان يحضره أربعون ألف رجل؛ بل إن العدد في أحد مجالس
عاصم الواسطي (ت 221هـ) قُدر –كما يقول الخطيب البغدادي- بحوالي مئة وعشرين ألف
شخص.
وقد يتساءل القارئ عن كيفية إيصال صوت
العالم أو الشيخ لمثل هذه الأعداد الضخمة من البشر في وقت لم تكن فيه مكبرات الصوت
قد ظهرت. هذه المشكلة يُقال أنها قد حُلت
بواسطة فئة من الرجال يعرفون بالمستملين، كانوا يتناقلون صوت الشيخ لإيصاله إلى
جميع الحضور. وتشير بعض المصادر إلى أن
هارون المستملي كان يصعد فوق نخلة معوجة ويستملي عليها. وكان عدد المستملين هو الآخر متفاوت؛ يكثر بكثرة
عدد الحاضرين للمجلس، ويقل بقلة عددهم، حتى قيل إن عدد المستملين في مجلس أبي مسلم
الكجي –مثلاً- بلغ سبعة مستملين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق