الثلاثاء، 28 أبريل 2015

المكتبات في الحضارة الصينية
تعد من أقدم حضارات الشرق الأقصى، حيث يمتد تاريخها الحضاري إلى أكثر من أربعة آلاف سنة قبل الميلاد، وتقع الحضارة الصينية بين بطاح سيبيريا في الشمال، وصحارى آسيا في الغرب، وجبال الهملايا ومتفرعاتها في الجنوب، وبحر الصين في الشرق. وكان لوجود أحواض نهرية خصبة وجيدة المناخ مثل حوض نهر "هو انغ- هو " و"يانغ –تسي –كيانغ"، الأثر الكبير في تسهيل قيام تجمعات سكانية وبشرية مستقرة منذ أقدم العصور، مما أتاح لتلك الشعوب أن تعتمد على ذاتها في تسيير بنيانها الحضاري المتكامل. والشعب الصيني من الجنس الأصفر ويغلب عليه الطابع المغولي، وقد جاء عبر النجود الصحراوية إلى هذه المنطقة في موجات متتابعة.
يتحدث الصينيون لغات ترجع في أصولها إلى اللغات الصينو- تبتية، أو الهندية- الصينية. ولا يعرف على وجه التحديد متى نشأت الكتابة في حضارة الصين، فبالرغم من أن أقدم الآثار المكتوبة ترجع إلى عهد دولة شانج (1523- 1027ق. م)، إلا أن بعض الآثار المكتوبة على ظهر عظام السلاحف وقطع البرونز التي وجدها الآثاريون في بعض مناطق الصين، تدل على أن بداية الكتابة في الحضارة الصينية أبعد تاريخا من عهد دولة شانج. ويرجع المؤرخون أن الكتابة في الحضارة الصينية بدأت في  الألف الثالثة قبل الميلاد، وكانوا يستخدمون أولا نظام العقد في الكتابة، ثم لجأوا لاحقا إلى الكتابة التصويرية pictographic  التي تحولت في حوالي منتصف الألف الثانية قبل الميلاد إلى النظام الرمزي Ideo-graphic وفي الواقع لم يطور الصينيون  كتاباتهم أبدا إلى شكل أبجدي صرف، بل ظلت كتابة أيدروجرامية Ideogram برموز المعاني، لكن فيها رموز الأصوات المقطعية، حتى يومنا الحاضر، بحيث يتعين على الطالب الصيني عند تعلم الكتابة أن يدرس آلاف الرموز والعلامات.
مواد الكتابة في الحضارة الصينية:
بدأ الصينيون الكتابة باستخدام مواد كتابية بدائية، كعظام الحيوانات، وخاصة عظام السلاحف، وأعواد البامبو، والألواح الخشبية، ثم بعد ذلك الحرير، فقد بدأوا يستخدمون قطع  الحرير ونسيجه، إلا أن استخدام الحرير كمادة للكتابة كان مقتصراً على طبقة معينة وأغراض محددة، فكان استخدامه قاصرا على الحكام، والنبلاء، ورجال الدين، وطبقة الأثرياء، وذلك لتكلفته العالية.
 أما الاكتشاف الصيني الهائل الذي أضاف بعدا حقيقيا إلى مواد الكتابة، فهو اكتشاف الورق. وكان الصينيون قبل الميلاد بحوالي قرنين من الميلاد يقومون بتقطيع الأنسجة أجزاء صغيرة ويتركونها في الماء إلى أن تتحول إلى عجين يتم تجفيفها  لتصبح نوعا من الورق.
 إلا أن هذا النوع من الورق لم يكتب له الانتشار لروائحه وعدم مناسبته كوسيط كتابي.
ويشير بعض الباحثين أن الصينيين استخدموا هذه التقنية أيضاً باستخدام الحرير لتصنيع ورق خفيف ناعم للغاية، إلا أنها كانت مكلفة للغاية. وظلت تلك التقنيات مستخدمة حتى حلول القرن الثاني الميلادي حيث قام تساي لون، في مقاطعة هونان عام 105 م باكتشاف تقنية جديدة باستخدام مواد رخيصة الثمن لتصنيع الورق. كان لظهور هذا الاكتشاف أعظم الأثر في انتشار الورق واستخدامه كوسيط كتابي وإحلاله محل الوسائط الكتابية الأخرى التي كانت مستخدمة في ذلك العهد. وانتشر هذا الاختراع بسرعة كبيرة في جميع أنحاء الصين،  ثم في "سن كيانع" أو ما يسمى بالتركستان الصينية، وتشير المراجع إلى أن أقدم النصوص المكتوبة على هذه المادة الورقية الجديدة هي وثائق مكتوبة بلغات مختلفة منها العبري، وتعود في تاريخها إلى القرنين الثاني والثالث الميلادي.
وكما سبقوا العالم في صناعة الورق ـ فقد سبقوا العالم أيضاً في اكتشاف وسائل الطباعة البدائية.
ويسرد جرولييه مراحل الطباعة في الصين، ويقسمها إلى ثلاث مراحل:
المرحلة الأولى: مرحلة الخاتم المحفور. ويشير بعض المؤرخين أن تقنية الخاتم  المحفور كانت معروفة في العصر اليوناني القديم، وأنها انتقلت إلى الصين عن طريق فتوحات الإسكندر الأكبر للشرق الأقصى، إلا أن الأختام التي على الصلصال التي عثر عليها "أوريل ستين"، والتي تعود إلى عهد أسرة هان حوالي سنة 306ق. م، تقترب في شكلها اقترابا كبيراً من الأختام السومرية التي ظهرت فيه الكتابة في الحضارة السومرية، وكانت على شكل اسطوانات محفورة تدحرج  على الصلصال اللبن النيئ. وأيا كان أصل الخاتم الصيني المحفور، فقد حل الخاتم على الورق محل الخاتم على الصلصال في الحضارة الصينية ما بين القرنين الثالث والرابع، أي بعد اكتشاف الورق بحوالي قرنين من الزمان، واختراع الصين لحبر الطباعة.
المرحلة الثانية: مرحلة فن الطباعة البارزة بالفرشاة على الورق، وتذكر المصادر التاريخية أن الكتب الخمسة الكلاسيكية التي حرص الصينيون على قدسية نصوصها حفرت بهذه التقنية في عهد أسرة "هان" وكان ذلك بناء على توجيه من الإمبراطور "لنج تي" عام 175م.
المرحلة الثالثة: مرحلة الكليشهات المعدنية، التي طبع عن طريقها في القرنين السادس والسابع صور صغيرة لبوذا على مدرجات من الورق الخفيف أو القماش أو الحرير، ويرجح أن هذه التقنية استخدمت للمرة الأولى في عهد أسرة "تانج" بين السنوات 619 و700م، وأقدم نص عثر عليه مطبوعا بهذه التقنية يتألف من سبع وريقات، وهو لكان- يوان تساباو، ويرجع تاريخه لما بين سنة 713 و742م، وهو محفوظ الآن عند أسرة يانج في دجيانج لنج بمقاطعة هو به.
بجانب تقنية الطباعة، قام الصينيون باستخدام أدوات كتابية متعددة، كالأقلام المدببة الأطراف، والأقلام ذات الأطراف المهدبة على هيئة فرشاة، التي يقال أن مكتشفها زعيم عسكري يدعى تين Tin، ويطلق عليها باللغة الصينية اسم بي BI، وهي عادة مصنوعة من وبر الجمل، كما استخدم الصينيون ريش الطيور  والأقلام المعدنية. وكان استخدام هذه الأدوات يتوقف على نوع المادة الكتابية والوسيط المستخدم، فللعظام كانوا يستخدمون الأقلام الخشبية أو المعدنة المدببة الأطراف، وللحرير كان يستخدمون البوص الطري، والفرشاة الـ (بي)، وللورق كان يستخدم عدة أدوات على حسب نوع الكتابة المطلوبة.
 وقد عرف الصينيون أيضاً تقنية صناعة الأحبار، ويعد الحبر الصيني الذي يصنع من السخام أو أسود العاج المخلوط مع الصمغ والغراء، من أقدم الأحبار المستخدمة في الحضارة الصينية، ويرجع تاريخه إلى حوالي 1200 ق. م، وهو حبر أسود لا يتغير لونه على مر الزمن. أما ما يسمى بالحبر القياسي الذي كان يصنع عن طريق استخدام حامض التانيك، وهو أكثر استخداما وشيوعا من النوع الأول، فيرجح أن يكون قد  عُرف منذ القرن الثاني الميلادي، وأصبح أكثر انتشاراً واستخداماً لسهولة استعماله وامتيازه بالإنسيابية.
عرفت الصين أشكالا متعددة من الكتب، فقد استخدمت الألواح الخشبية التي تنقش  عليها الكتابة عن طريق الحفر بآلة حادة، ثم تطورت بعد اكتشاف الأحبار، وكتب عليها بأقلام الغاب الرفيع المغموسة في الأحبار، للأسف لم يصلنا من هذا الشكل إلا القليل، نتيجة إلى الأمر الذي أصدره الإمبراطور الصيني تسن شيهو انجتي Tsin Shihuantgi عام 213 ق. م بإبادة جمع الكتب، في محاولة منه لعقاب مؤلفي الكتب الذين تجرأوا على معارضته ونقد نشاطه السياسي. وكانت النتيجة حرق جمع الكتب التي أنتجت حتى ذلك العهد، ولم ينج منها إلى أقل القليل، أما الكتب الخشبية التي أنتجت بعد ذلك، فقد كان يتم دفنها تحت الأرض، مما أدى إلى تلف معظمها وفساده.
أما كتب الحرير فقد ظهرت في وقت لاحق، وبدأت باستنساخ الآداب القديمة التي ترجع إلى عصر كونفوشيوس Confucius في القرن السادس ق. م، وامتازت كتب الحرير بالمرونة والنعومة والبريق والقابلية للطي وسهولة التخزين والحفظ، وإن كانت تكلف غالبا في صنعها وشرائها. ومن البديهي أنه بعد اكتشاف الورق في الحضارة الصينية، بدأ الكتاب يأخذ شكله الورقي الجديد الذي استمر به إلى الآن.
يمتاز الصينيون عن غيرهم من الشعوب بأن تراثهم الفكري، كان إنتاجا أصيلا نابعا من بيئتهم وثقافتهم المحلية، متولدا من بنات أفكارهم، فكانوا شعوبا مبدعة، لم يقتبسوا عن سواهم إلا في أضيق الحدود.
مجالات الكتابات في الحضارة الصينية:
تنوعت موضوعات الكتابات في الحضارة الصينية، إلا أن الكتابات الأدبية في الحضارة الصينية، تعد من أقدم كتابات هذه الحضارة، وكانوا ينتجون أدبا مسرحيا وقصصيا رفيعا. وأقدم الآثار الأدبية الصينية التي نعرفها اليوم ترجع إلى أيام دولة تشر (1027 -256 ق. م)، ومن الآثار التي اكتشفها علماء هان (2020- 202ق. م) وعرفت بالأدب الكنفوشي، وجدت مجموعة "شه شو" وهي عبارة عن أربع مجاميع من الكتب، أهمها مجموعة "منشيوسي"، وهي خمسة كتب تنسب إلى كونفوشيوس نفسه، وتتضمن تاريخ العصور القديمة، والتقاليد وحوليات ولاية " لو"Lu مسقط رأس كونفوشيوس، ووصفا للشعائر الدينية، ومجموعة أشعار قديمة (305 قصيدة)، و"المدينة الفاضلة"، ومن أهم كتب الأدب القديم، كتاب ألفه لا وتزى في منتصف القرن الثالث ق. م، وعنوانه "تادته كنج"، وكذلك مؤلفات الأديب الصيني "تشوانج تزى".
وكانت الكتابات التاريخية، أحد المواضيع المفضلة في الحضارة الصينية، وأقدم كتبهم التاريخية هو ذاك الذي جمعه وهذبه أعظم كتابهم" كونفوشيوس" سمى "كتاب التاريخ". أما أعظم الكتب التاريخ على  الإطلاق في الحضارة الصينية، ذاك الذي جمعه المؤرخ الصيني " زو- ما –تشين"، وغطى به أحداثا امتدت إلى ثلاثة آلاف عام من تاريخ الصين.
وكما كان للصين أدباؤها ومؤرخوها فقد كان لها شعراؤها الكبار أيضا، من أمثال "لى-يو" و"داو-تشين" الشاعر الروائي، و"دو-فو" الشاعر الإنساني.
 وفي مجال العلوم اهتم الصينيون بعلوم الجغرافية، ودرسوا الفلك، ونبغوا في الطب، وتفوقوا في علم الحساب والأعداد. ويكفي علماؤهم فخرا بأنهم أول من اكتشفوا صناعة الورق وتقنيات الطباعة.
ويعد كونفوشيوس confucius(551- 447 ق. م) واسمه الحقيقي كونغ- فو–رزهـ)، من أكبر فلاسفة الصين، وأكثرهم شهرة. كانت وسائله التعليمية شبيهة، بوسائل سقراط، تعتمد على الشفاهة، إلا أنه ترك خمسة مجلدات تضمنت أفكاره، وسميت بـ "كتب القانون الخمسة"، وحرض تلاميذه ومريدوه على جمع أقواله وآرائه في كتاب نال شهرة عالمية، وسمي "الأحاديث والمحاورات". وظلت تعاليم ومبادئ كونفوشيوس المحرك الأول للفكر الصيني؛ حوالي فترة ألفي عام تقريباً منذ تأسيس أسرة هان، وحتى سقوط أسرة منشو.
المكتبات في الحضارة الصينية:
بالرغم من أن معلوماتنا عن المكتبات في الحضارة الصينية  تعد قليلة للغاية، إلا أن الشواهد التاريخية  تؤكد الاحترام العظيم التي كانت تكنه شعوب هذه الحضارة للفلاسفة والمفكرين والمثقفين منهم. ويؤكد بعض المؤرخين أن المكتبات في الحضارة الصينية القديمة كانت تقام خصيصا لتستخدمها هذه الطبقة المميزة من المفكرين والأدباء الصينيين، بجانب طبقة الحكام وعليه القوم.
 وقد حافظت المكتبات في الحضارة الصينية على موروثات الثقافية والعلمية والعقائد للحضارة الصينية،  وطورتها. وكان لذلك المخزون الفكري أثره العميق في المجتمع الصيني، والمجتمعات الآسيوية المحيطة به بالرغم من أن الحضارة الصينية لم تتأثر بالتقلبات والتدهور في الحياة الثقافية والعلمية، التي كانت السمة المميزة لفترة العصور الوسطى في أوربا، إلا أن الحياة التعليمية والثقافية في المجتمع الصينيين المتمثلة في المؤسسات التعليمية والمكتبات، لم تكن متاحة إلا للطبقة المميزة في المجتمع من علية القوم والحكام والأثرياء ومن في حكمهم، كما أن الفرصة كانت متاحة أيضاً للمفكرين والفلاسفة والأدباء والمتمتعين بمكانة عالية في المجتمع الصيني.
ويمكن تلخيص خصائص الحضارة الصينية، فيما يتعلق بالكتابة والكتب والمكتبات في النقاط التالية:
1-تعد الحضارة الوحيدة التي لا تزال تستخدم إلى الآن اللغة المكتوبة التي نشأت في مجتمعاتها منذ أقدم العصور.
2-فضلهم في اكتشاف صناعة الورق، الذي يعد أهم مادة كتابية على مر العصور.
3-أول من كتبوا على الحرير، وأنتجوا ما عرف "بالكتب الحريرية"
4-أول من استخدم تقنيات الطباعة في الحضارات القديمة.
5-صناعتهم للريشة المصنوعة من وبر الحمل " بي" كأداة للكتابة لم تكن معروفة من قبل.
6-صناعة الأحبار المستخدمة في الكتابة والطباعة، والتي لا زالت تقنيات صنعها  مستخدمة إلى الآن.


هناك تعليق واحد: