الثلاثاء، 28 أبريل 2015

تاريخ المكتبات في الحضارة الإسلامية
عرفت الحضارة الإسلامية في عصورها الأولى العديد من أنواع المكتبات؛ فظهرت المكتبات الخاصة كمكتبات الخلفاء والأمراء والوزراء ومكتبات العلماء وأيضا مكتبات النساء، كما ظهرت مكتبات المساجد، والمكتبات العامة، والمكتبات المدرسية والجامعية، إضافة إلى مكتبات المستشفيات.
وفي الأسطر التالية ستعرف تفصيل ذلك.
1- المكتبات الخاصة:
هي أقدم أنواع المكتبات في الحضارة الإسلامية وأسبقها إلى الظهور؛ لأن حب التملك غريزة فطرية في الإنسان، وحيثما توجد كتابه وكتب، تجد تلك الغريزة مجالها للانطلاق. ومن أجل هذا ظهرت المكتبات الخاصة في الدولة الإسلامية منذ وقت مبكر، ففي القرن الأول الهجري كانت هناك مكتبة خاصة  لعروة بن الزبير(ت63هـ)، ومكتبة خاصة لعبد الله بن عباس(ت86هـ)، وفي القرن الثاني الهجري كانت هناك مكتبات خاصة لكل من ابن شهاب الزهري(ت124هـ)، وأبي عمرو بن العلاء(ت154هـ)، وسفيان الثوري(ت161هـ).
أ) مكتبات الخلفاء والأمراء والوزراء:
بسبب انتشار العلم والمعرفة، ولاتصال المسلمين بالحضارات الأخرى التي وجدوها في البلاد التي فتحها الله عليهم - انتشرت المكتبات الخاصة انتشاراً كبيراً، وكان على رأسها مكتبات الخلفاء والأمراء والوزراء، فقد كانت مجالس الخلفاء بمثابة حلقات للسمر والمناظرة والمحاضرة، ولم يكن يمكن لها أن تؤدي وظيفتها بغير كتب.
ومنذ القرن الثالث الهجري حين بدأت الدولة الإسلامية تنقسم إلى دويلات كان كل خليفة ينافس الآخر ويحرص على أن يضم مجلسه خيرة العلماء  والأدباء، وأن تضم مكتبته أنفس المخطوطات.
ولم يكن الأمراء والوزراء يقلون عن الخلفاء حرصا على اقتناء الكتب وتكوين المكتبات الخاصة بهم. ومن أمثلة تلك المكتبات: مكتبة خالد بن يزيد ومعاوية (حكيم بني مروان) وقد كانت مكتبة علمية بمفهوم العصر الحديث لأن صاحبها كان مولعا بالكيمياء فحرص على جمع الكتب الكيميائية وترجمة الأجنبي منها إلى اللغة العربية وخزانة يحي بن خالد البرمكي التي كانت تضم ثلاث نسخ من كل كتاب وخزانة الواقدي (ت207هـ) التي بلغت ستمائة قطر. وخزانة عضد الدولة البويهي(ت372هـ) الذي "لم يبق كتاب صنف إلى وقته في أنواع العلوم كلها إلا وحصله فيها"، ومكتبة ابن العميد التي كانت تحمل على مائة وقر وزيادة والتي كان مسكويه المؤرخ خازنا لها، ومكتبة الصاحب بن عباد (ت385هـ) التي يروي ياقوت أنها كانت تضم مائتين وستة آلاف مجلد، وخزانة يعقوب بن كلس (ت380هـ) وزير العزيز الفاطمي التي بلغت رواتب النساخين فيها ألف دينار في الشهر.
وفي حلب وجدت مكتبتان خاصتان على جانب كبير من الضخامة هما مكتبة سيف الدولة الحمداني (303-356هـ)، ومكتبة جمال الدين القفطي (ت646هـ) التي فيها "من  الكتب مالا يوصف، وقصد بها من الآفاق، وكان لا يحب من الدنيا سواها، وكانت تساوي خمسين ألف دينار"
ب) مكتبات العلماء
لم تقتصر المكتبات الخاصة على الخلفاء والأمراء والوزراء، بل كان للعلماء أيضاً مكتباتهم الخاصة، منها مكتبات الأطباء، ومكتبات القضاة، ومكتبات الفقهاء، كما هو موضح فيما يلي.
1) مكتبات الأطباء:
 من يرجع إلى كتاب "عيون الأنباء" لابن أبي أصيبعة يجد عدداً لا بأس به من أطباء سورية ومصر كانت عندهم مكتبات ضخمة، نذكر منها على سبيل المثال الطبيب الدمشقي موفق الدين بن المطران (ت587 هـ) الذي كان معاصراً لصلاح الدين الأيوبي والذي بلغت مجموعة كتبه ما يقرب من عشرة آلاف مجلد.
2) مكتبات القضاة:
من بين المكتبات الخاصة مكتبة القاضي أبي المطرف عبد الرحمن (348هـ - 402 هـ) بالأندلس وقد "جمع من الكتب في أنواع العلم ما لم يجمعه أحد من أهل عصره بالأندلس، وكان متى علم بكتاب حسن عند أحد من الناس طلبه للابتياع منه وبالغ في ثمنه، فإن قدر عليه ابتاعه وإلا استنسخه منه ورده عليه "،  وبلغ من كثرة كتبه أن أهل قرطبة اجتمعوا لبيع كتبه مدة عام كامل في مسجده" وبلغ ثمنها أربعين ألف دينار ".
3) مكتبات النساء:
ولم تكن المكتبات الخاصة مقصورة على العلماء والأدباء وإنما امتدت لتشمل نساء الأندلس المشتغلات بالعلم والأدب أيضاً، مثل عائشة بنت أحمد بن محمد بن قادم (ت400هـ)، التي يذكر ابن بشكوال أنها كانت تملك خزانة علم كبيرة.
مكتبات خاصة تحولت إلى مكتبات عامة ووطنية:
من هذه المكتبات الخاصة مكتبات تحولت إلى مكتبات عامة ووطنية، منها مكتبة بيت الحكمة، والمكتبة الفاطمية، ومكتبة الأمويين بالأندلس.
ولكن أعظم المكتبات الخاصة التي عرفتها الدولة الإسلامية هي تلك التي ألحقت بقصور الخلافة العباسية في بغداد، والمكتبة الفاطمية في مصر والمكتبة الأموية في الأندلس.
فأما المكتبة الأولى فهي " بيت الحكمة" أو " خزانة الحكمة" التي أنشأها الرشيد في أواخر القرن الثاني الهجري ثم ازدهرت في عهد المأمون الذي كان محبا للعلم جماعا للكتب فحرص على أن يجلب إليها التآليف من كل حدب وصوب، وبعث إلى بلاد الروم وإلى قبرص وصقلية من يأتيه بتراث الأمتين العظيمتين في التاريخ القديم: اليونان والرومان، وبلغ من حرصه على جمع تراث الأمم القديمة أنه كان يرسل في كل صيف حملات دورية إلى مراكز الثقافة اليونانية في آسيا الصغرى كأنقرة وعمورية عرفت باسم "الصوائف"، ولم يكن هدف هذه الحملات عسكريا وإنما كان هدفها ثقافيا وهو جمع التراث القديم.
ولم تكن "خزانة الحكمة" مجرد مخزن للكتب كما قد يتبادر إلى الذهن أو كما يوحي بذلك اسمها، وإنما كانت مركزا للثقافة بأوسع معانيها، فقد كانت منتدى للعلماء  وقاعة بحث الدارسين، وكانت إلى جانب ذلك مركزا لترجمة الكتب ونسخها. وبمفهو م العصر الحديث نستطيع أن نقول إنهما كانت مؤسسة للترجمة والنشر،  فقد ضمت كثيراً من المترجمين أمثال حنين بن إسحق، ومن النساخين أمثال علان الشعوبي، ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا إنها كانت مسرحا لأكبر حركة ترجمة شهدها التاريخ العربي فمنذ زمن المأمون أصبحت الترجمة عملا رسميا للدولة  نمارسه من خلال خزانة الحكمة، ومن ثم ارتبطت بها أسماء كثير من المترجمين نذكر منهم يوحنا بن ماسويه، ويوحنا بن البطريق، وحنين بن إسحق الذي يروي ابن أبي أصيبعة أن المأمون كان يعطيه زنة ما ينقله ذهباً. والذي جعله المتوكل على رأسها وجعل تحت يده "كتابا عالمين بالترجمة" كانوا يترجمون ويتصفح حنين ما ترجموا.
أما المكتبة الثانية فهي "المكتبة الفاطمية"، وهي خزانة كتب العزيز الفاطمي الذي ولى حكم مصر من سنة 365 هـ إلى سنة 386 هـ، وقد كان اهتمام الفاطميين بالكتب والمكتبات شديدا باعتبارها أداة لنشر دعوتهم الشيعية، ولهذا أنشأوا الجامع الأزهر ليكون مدرسة تعلم الناس المذهب الإسماعيلي الشيعي، وأنشأ العزيز مكتبته الضخمة هذه بمساعدة وزيره يعقوب بن  كلس الذي كان جماعا للكتب.
وفي "خطط " المقريزي نجد ذكراً لأربعين خزانة من خزائن القصر وروايات مختلفة عن حجمها. فمن قال إنها كانت تضم ثمانين ألف كتاب ومن قائل إنها كانت تزيد على مائة وعشرين ألف مجلد، ومن قائل إنها كانت أكثر من مائتي ألف كتاب مجلد ويسير من المجردات، وارتفع أبوشامة بالرقم إلى مليوني كتاب وهي أعداد ضخمة لاشك في هذا وخاصة إذا نظرنا إليها في إطار العصر الذي أنشئت فيه المكتبة.
وأما مكتبة الأمويين في الأندلس فقد أنشأها لحكم المستنصر الذي ولى من سنة 350 هـ إلى سنة 366هـ والذي كان "جماعة للكتب في أنواعها بما لم يجمعه أحد من الملوك قبله" فجلب إليها المصنفات من الأقاليم والنواحي وأنفق في شراء الكتب من الأموال ما ضاقت عنه خزائنه حتى بلغت أربعمائة ألف مجلد.
وقد روى ابن خلدون أن هذه المكتبة كان لها أربعة  وأربعون فهرسا في كل منها عشرون ورقة ليس فيها إلا ذكر أسماء الدواوين ليس غير، وأن الحكم كان يبعث في الكتب إلى الأقطار رجالا من التجار ويسرب إليهم الأموال لشرائها حتى جلب منها إلى الأندلس ما لم يعهدوه، وجمع بدراه الحذاق في صناعة النسخ والمهرة في الضبط والإجادة في التجليد فأوعى من ذلك كله. . "
وهذه المكتبات الثلاث: مكتبة العباسيين في بغداد، ومكتبة الفاطميين في القاهرة، ومكتبة الأمويين في قرطبة، كان لها الفضل الأكبر في حفظ التراث الإسلامي، بل والتراث الإنساني القديم مترجما إلى لغة العرب حتى دنت نهاية المكتبة الأولى على يد هو لاكوا حينما دهم بغداد 656هـ. أما مكتبة الفواطم في القاهرة فقد زالت هي الأخرى مع زوال دولتهم بموت العاضد آخر خلفائهم واستيلاء صلاح الدين الأيوبي على الحكم من بعدهم، لكن نهايتها كانت أسعد من نهاية سابقتها إذ انتفى القاضي الفاضل مجموعة ضخمة من كتبها ووقفها على مدرسته الفاضلة بالقاهرة، وتبقى خزانة الأمويين في قرطبة ما بقيت الخلافة الأموية قائمة حتى إذا تقوضت دعائم هذه الخلافة واستولى ملوك الطوائف على البلاد، تبددت كنوزها وتقاسمتها الأطماع والأهواء.
2- مكتبات المساجد
لم تكن المكتبات الخاصة هي النوع الوحيد الذي عرفه المسلمون من أنواع المكتبات، فقد وجد إلى جانبها منذ عصر مبكر أيضاً نوع آخر هو مكتبات المساجد.
 فمنذ فجر الإسلام اتخذ المسلمون المسجد مكانا للتعليم بجميع مراحله، وغنى عن القول أن الكتب ركن أساس من أركان العملية التعليمية لا تقوم إلا به، ولهذا انتشرت مكتبات المساجد في العواصم والمدن الإسلامية كدمشق وبغداد والقاهرة وقرطبة وطليطلة، وكانت بعض المساجد تضم أكثر من خزانة؛ كالذي يرويه ياقوت من أنه في سنة 616هـ رأى في جامع مرو خزانتين كبيرتين إحداهما يقال لها العزيزية وقفها رجل يقال عزيز الدين الزيجاني وكان فيها اثنا عشر مجلداً أو ما يقاربها، والأخرى يقال له لها الكمالية لا يدري إلى من تنسب.
 ولم تكن مكتبات المساجد هذه تقتصر على الكتب الدينية وإنما كانت تضم الكتب العلمية والأدبية أيضا.
3- المكتبات العامة
عرفت الدولة الإسلامية في عصورها الأولى نوعاً ثالثاً من أنواع المكتبات يعتبر اليوم مقياسا لرقي الأمم والشعوب وهو المكتبات العامة التي تنشئها الدول لتسهم في زيادة رصيد أبنائها من المعرفة والثقافة، وقد وجد هذا النوع من المكتبات في مختلف أنحاء الدولة الإسلامية منذ وقت مبكر جدا، فصاحب "الأغاني" يحدثنا أن عبد الحكم بن عمرو بن صفوان الجمحي في العصر الأموي (ت160هـ) اتخذ له بيتا جعل فيه شطرنجات ونردات ودفاتر فيها من كل علم، وجعل في الجدار أوتاداً، فمن جاء علق ثيابه  على وتد منها ثم جر دفتراً فقرأه أو بعض ما يلعب به فيلعب به. قال ابن حزم: "وعبد الحكم، كان من فتيان قريش، قد اتخذ بيتاً لإخوانه، فيه كتب العلم، والشطرنجيات، والنرد"
ومعنى ذلك أن عبد الحكم هذا كان صاحب فكرة أول مكتبة عامة تفتح أبوابا للجمهور. ولم تكن المكتبة قائمة بذاتها وإنما كانت جزءا مما يمكن أن نطلق عليه بمصطلح العصر الحديث "ناديا ثقافيا" فيه إلى جانب الدفاتر شطرنجات ونردات.
ومما ساعد على كثرة المكتبات العامة وتراثها أن كثيراً من العلماء كانوا يوصون بأن تؤول إليها كتبهم بعد وفاتهم، كالذي فعله الصاحب بن عباد حين أو قف مكتبته على الري.
وكانت هذه المكتبات العامة تؤدي خدمة الإعارة، فيذكر ياقوت الحموي أن مرو كان بها في مطلع القرن السابع الهجري عشر خزائن الوقف جميعها مجانية والإعارة فيها بدون رهن.
ومن أشهر المكتبات العامة في الدولة الإسلامية تلك التي أساسها صابور بن أردشير وزير بهاء الدولة البويهي في حي الكرخ ببغداد سنة 382هـ كجزء من دار العلم وأوقف عليها أو قافا كثيرة وبلغت مجموعة كتبها عشرة آلاف مجلداً أغلبها بخطوط أصحابها، وبلغ من شهرتها أن المؤلفين كانوا يسعون إلى إيداع نسخ من كتبهم بها وهو ما كان يسمى "تخليدا" في اصطلاح ذلك الزمان، وهذه المكتبة رحل إليها أبوالعلاء المعري وذكر أمناءها في "رسالة الغفران " وكان الشريف المرتضى أحد القائمين عليها.
وثمة مكتبة أخرى ألحقها بنوعمار بدار العلم التي أسسوها في طرابلس الشام في القرن الخامس الهجري لنشر مذهبهم الشيعي، وحرصوا على أن يجلبوا لها نوادر الكتب ونفائس المخطوطات حتى قدر عدد كتبها في قمة مجدها بثلاثة ملايين مجلداً، وهو رقم لا يخلو من مبالغة ولكنه يعكس ضخامة حجم هذه المكتبة التي امتدت بها الحياة حتى أحرقها الصليبيون عندما احتلوا طرابلس  في سنة 502هـ.
وهذه المكتبات العامة التي عرفتها الدولة الإسلامية  في عصورها الأولى كانت عامة بكل معاني الكلمة، فقد كانت تقدم خدماتها من إعارة وإرشاد بلا مقابل، وكان بعضها يمضي إلى ما هو أبعد من ذلك فيقدم لرواده الورق والمداد والأقلام كما كان يحدث في مكتبتي البصرة ورام هرمز اللتين أنشأهما أبوعلى بن سواد (ت372هـ) أحد رجال حاشية عضد الدولة البويهي.
بل إن بعض  هذه المكتبات كانت تقدم  رواتب لمن يفد إليها ويقيم فيها من طلاب وباحثين؛ كما كان  الحال في مكتبة على بن يحي المعروف بابن المنجم، وهو من الأطباء النقلة الذين نقلوا كتب الطب وغيره من اللسان اليوناني إلى اللسان العربي، وكان أحد كتاب المأمون وكان نديماً له وعنده فضل ومال. ومكتبة دار العلم التي أنشأها جعفر بن محمد حمدان الموصلي بالموصل ووقفها على كل طالب علم "لا يمنع أحد من دخولها إذا جاء غريب يطلب الأدب، وإن كان معسرا أعطاه ورَقاً وورِقًا".
4- المكتبات المدرسية والجامعية
عرفت الدولة الإسلامية تلك المكتبات التي تخدم النظام التعليمي، وهي المكتبات المدرسة والجامعية، وقد تأخر ظهور هذا النوع نوعاً ما؛ لأن المسجد كان المدرسة الأولى في الإسلام، وكانت المساجد هي المؤسسات التعليمية الوحيدة خلال القرون الخمسة الأولى من تاريخ الإسلام. ويوم كان المسجد يقوم بدور المدرسة والجامعة في العملية التعليمية، كانت مكتبات المساجد هي البديل الطبيعي عن المكتبات المدرسية والجامعية.
وبقيام المدرسة النظامية في بغداد في النصف الثاني من القرن الخامس الهجري لتدريس مذهب أهل السنة والجماعة، اعتبر نظام الملك وزير السلاجقة أول من أسس المدارس وجعلها عملا رسميا من أعمال الدولة. ولم تكن هذه المدرسة مدرسة بالمعنى الاصطلاحي للكلمة وإنما كانت أقرب إلى الجامعة بمفهوم العصر الحديث، وقد زودت عند إنشائها بمكتبة ضخمة جدد عمارتها الناصر لدين الله العباسي سنة 589هـ  ونقل إليها من الكتب النفيسة ألوفا لا يوجد مثلها، حتى ليقال إن فهرسها كان يضم بين دفتيه ستة آلاف مجلد.
ولم تكن المدرسة النظامية فريدة في نمطها، فقد اشتهرت بعدها مدارس كثير نذكر منها المدرسة المستنصرية التي أقامها المستنصر العباسي في بغداد سنة 631هـ  لتكون جامعة تحمل اسمه وزودها بخزانة كتب عظيمة قيل إنها بلغت يوم الافتتاح ثمانين ألف مجلد.
ونذكر منها أيضاً المدرسة الفاضلية التي أنشأها القاضي الفاضل وزير صلاح الدين بالقاهرة ونقل إليها من خزانة القواطم مائة ألف مجلد كما يروي المقريزي في "خططه".
5- مكتبات المستشفيات
لم تقف عناية المسلمين بالكتب والمكتبات عند هذا الحد وإنما تجاوزته إلى أفق آخر لم تبلغه الأمم المتقدمة اليوم إلا بقدر، فقد أقاموا المستشفيات وأطلقوا عليها المارستانات (أي بيوت المرضى) ومنها المارستان العضدي الذي أنشأه عضد الدولة البويهي في القرن الرابع الهجري في بغداد، والمارستان النوري الذي أنشأه نور الشهيد في دمشق في القرن السادس، وزودوا كل واحد من هذه المارستانات بمكتبة ضخمة قد تصل كتبها إلى عشرات الألوف.
ولم تقتصر مكتبات هذه المارستانات على الكتب التثقيفية والترفيهية وإنما كان أكثرها كتبا طبية.
واقع المكتبات الإسلامية:
لاقت هذه الأنواع المتعددة من المكتبات الإسلامية جميعها الكثير من العناية والاهتمام؛ فنجد أن طرق تزويدها قد تنوعت ما بين شراء وإهداء ووقف ونسخ ومصادرة، كما نجدها أيضاً قد عرفت الفهرسة والفهارس والتصنيف والصيانة والترميم.
فنجد أن لهذه المكتبات ميزانيات كبيرة، مما أدى إلى كثرة مقتنياتها وتنوع موضوعاتها.
كم نجد أن لهذه المكتبات فهارساً اتخذ بعضها شكل كراسات كما كان الحال في مكتبة الصاحب بن عباد بالري ومكتبة الحكم المستنصر بقرطبة ومكتبة المدرسة النظامية في بغداد، واتخذ بعضها الآخر شكل قوائم تلصق على كل خزانة بمحتوياتها كما كان الشأن في مكتبة الفواطم في القاهرة وخزانة عضد الدولة البويهي التي رآها المقدسي بشيراز ووصف كتبها بأنها  كانت " منضدة على الرفوف، لكل نوع بيوت وفهرستات فيها أسامي الكتب"
كذلك عرفت المكتبات الإسلامية نظم التصنيف منذ عهد بعيد، فابن سينا يحدثنا أنه وجد مكتبة بخارى مصنفة، وصلاح الدين وجد مكتبة الفواطم مصنفة أيضا. ومكتبات النظامية والمستنصرية كانت هي الأخرى مصنفة.
كما عرفت هذه المكتبات أيضاً الصيانة والترميم لمقتنياتها. ومن الأشياء الطريفة ما ذكره المقريزي في "خططه" من أن ميزانية دار الحكمة التي أنشأها الحاكم بأمر الله في القاهرة سنة 395 هـ  كان فيها بند "لمرمة ما عسى  أن يتقطع من الكتب وما عساه أن يسقط من ورقها"، وذلك دليل على أن الكتب كانت قد بدأت تتلف من كثرة الاستعمال أو مما يصيبها من آفات وأن العرب قد تنبهوا في تلك المرحلة المبكرة من تاريخهم إلى أهمية عمليات الصيانة والترميم. وذلك في حد ذاته دليل على نضج الوعي المكتبي عندهم منذ أكثر من ألف عام.
مآل المكتبات الإسلامية:
     من كل ما تقدم تبين لنا أن المسلمين كان لهم قدم راسخة ودور رائد في تاريخ الكتب والمكتبات، وأن هذه المكتبات الإسلامية كان بمثابة الوعاء الذي احتضن تراث الإنسانية.
     إلا أن هذه المكتبات لم تدم؛ إذ بدأت موجات الغزو الخارجي على العالم الإسلامي من غزو مغولي تتري وحملات صليبية، كذلك بدأت الفتن الداخلية تعصف بقلب هذه الأمة، يومها بدأ بنيان تلك المكتبات الإسلامية يتصدع وبدأت مقتنياتها تتبدد؛ فأصبح بعضها طعاما للنار، وبعضها نهبا للمعتدين، فانتقل هذا التراث الإسلامي إلى أوربا عن طريق إيطاليا وأسبانيا وعن طريق الحملات الصليبية.
أخذ الأوربيون هذا التراث العربي الإسلامي ودرسوه واستوعبوه وانتقلوا بسببه من ظلمات الجهل إلى نور العلم، وأصبح للأوربيين حضارة وكتبا ومكتبات، نلقي الضوء عليها في الأسطر القادمة إن شاء الله تعالى.
مكتبة بيت الحكمة:
وقد أنشئت هذه المكتبة في القرن الثاني الهجري (الثامن الميلادي) حيث أسسها الخليفة العباسي هارون الرشيد ـ رحمه الله ـ وذلك بعد أن ضاقت مكتبة قصره بما فيها من كتب, وعجزت عن احتواء القراء المترددين عليها, مما جعله يفكر في إخراجها من القصر, وإفرادها بمبنى خاص بها, يصلح لاستيعاب أكبر عدد من الكتب, ويكون مفتوحا أمام كل الدارسين وطلاب العلم.
فاختار لها مكانا مناسبا, وأقام عليه مبنى مكونا من عدة قاعات, قاعة للاطلاع, وقاعة للمدارسة, وقاعة لنسخ الكتب الجديدة وتجليدها, وقاعة للترويح عن النفس وللاستراحة, ومسجدا للصلاة, ومكانا يبيت فيه الغرباء, تتوفر فيه مقومات الحياة من طعام وشراب وغيره, ومخزنا للكتب, نظمت فيه بحيث صار لكل فن من الفنون العلمية مكان خاص به, وتوضع فيه مرتبة في دواليب, يحمل كل دولاب عنوانا لما فيه من كتب, وأرقامها, ثم جعل لكل فن فهرست خاص به, يشمل عناوين وأرقام الكتب, وتعريف بكل كتاب ومؤلفه, وعدد أجزائه وصفحاته, واللغة التي كتب بها, وإشارة إلى أجزائه المفقودة إن كان فقد منه شيء.
ثم زودها بما تحتاج إليه من أثاث ومرافق, وأحبار وأوراق للدارسين, وعين لها المشرفين على إدارتها, والعمال القائمين على خدمة ورعاية زائريها.
وأحضر لها كبار العلماء في فنون العلم المختلفة, مسلمين وغير مسلمين عربا وعجما, وأجزل لهم العطاء, وفتح لهم باب المناقشات الحرة فيها, وإقامة المناظرات العلمية, وتصنيف الكتب, وشجع الطلاب على التردد عليها من شتى الأرجاء، ورصد لهم المكافآت, وأجرى عليهم الأرزاق والعطايا.
وصار يجلب إليها كل كتاب يسمع عنه, بل وشجع التجار الذين كانوا يرحلون إلى بلاد فارس والروم والهند بشراء ما يقع تحت أيديهم من كتب أيا كان نوعها, وحض باقي الناس على المساهمة في ذلك حتى قيل: إنه كان في بعض الأوقات يقبل الجزية ممن تجب عليهم كتبا، كما أحضر لها مئات النساخ والشراح والمترجمين من شتى اللغات؛ لتعريب ونقل الكتب من لغتها الأصلية.
وواصل ابنه المأمون بعده الاهتمام بتلك المكتبة, حتى غدت من أعظم المكتبات في العالم, ووضع بها مرصدا؛ ليكون تعليم الفلك فيها تعليما عمليا، يجرب فيها الطلاب ما يدرسونه من نظريات علمية, وبنى بها مستشفى لعلاج المرضى وتعليم الطب, إذ كان يؤمن بأن العلم النظري وحده لا جدوى منه.
وكتب إلى ملك الروم يسأله الإذن في إنفاذ ما عنده من العلوم القديمة المخزونة المورثة عن اليونان, وكانت تقاليد الروم وقتها تمنع من مطالعتها, ثم أجابه إلى ذلك بالامتناع, فجهز المأمون بعثة علمية, وزودها بنفر من المترجين, وجعل على رأسها المشرف على مكتبة" بيت الحكمة ", وتجولت تلك البعثة في كثير من الأماكن المختلفة التي يظن أن فيها مخازن للكتب اليونانية القديمة, وعادت إليه بطرائف الكتب, وغرائب المصنفات في الفلسفة والهندسة والموسيقى والطب والفلك، وغير ذلك من العلوم.
كما راسل المأمون باقي الملوك في عصره يسألهم أن يسمحوا لبعثاته بالبحث والتنقيب عن الكتب في المخازن القديمة, ومن أطرف ما حكي في ذلك أن إحدى هذه البعثات العلمية وجدت تحت حصن قديم ببلاد فارس صناديق, بها كتب كثيرة قد تعفنت حتى فاحت منها رائحة نتنة, فأخذتها رجال البعثة, وحملوها إلى بغداد وبقيت حولا كاملا حتى جفت وتغيرت، وزالت الرائحة عنها, ثم أقبلوا بعد ذلك على دراسة ما فيها ـ وللقارئ أن يتخيل إلى أي مدى وصل هؤلاء من الحرص على العلم, والفرق بينهم وبين أجيال المسلمين المعاصرة، وما هم عليه من زهد في القراءة وإعراض عنها.
واجتمع لدى المأمون بذلك ثروة هائلة من الكتب القديمة, فشكل لها هيئة من المترجمين المهرة والشراح والوراقين, للإشراف على ترميمها ونقلها إلى العربية, وعين مسئولا لكل لغة يشرف على من يترجمون تراثها, وأجرى عليهم الرواتب العظيمة, حيث جعل لبعضهم خمسمائة دينار في الشهر, أي ما يساوي 2كيلو جرام ذهبا تقريبا, بالإضافة إلى الأعطيات الأخرى, إذ أعطى على بعض الكتب المترجمة وزنها ذهبا.
وقد ذكر ابن النديم في كتابه الفهرست أسماء لعشرات ممن كانوا يقومون بالترجمة من اللغات الهندية واليونانية والفارسية والسريانية والنبطية, وهؤلاء لم يقوموا بترجمة الكتب إلى العربية فقط, وإنما إلى سائر اللغات الحية المنتشرة داخل المجتمع الإسلامي؛ كي ينتفع بها جميع من يعيش داخل البلاد الإسلامية على اختلاف جنسياتهم, وبعضهم كان يقوم بترجمة الأصل إلى لغته هو, ثم يقوم مترجم آخر بنقله إلى العربية وغيرها, كما كان يفعل يوحنا بن ماسويه الذي كان ينقل الكتاب إلى السريانية, ثم يكلف غيره بنقله إلى العربية، مع الاحتفاظ بالأصل بعد صيانته وتجليده.
ومن يراجع كتب الفهارس التي نقلت عن هذه المكتبة يجد إشارات كثيرة تدل على أن الكثير من الكتب كان يوجد منها نسخ نبطية وقبطية وسريانية وفارسية وهندية ويونانية, وقدم علماء المسلمين بذلك خدمة جليلة للبشرية جمعاء, بنقلهم لهذا التراث الذي كان مهددا بالزوال, ولولاهم ما عرف الناس في العصر الحديث شيئا عن المصنفات اليونانية والهندية الثمينة القديمة, حيث كان يحرم الاطلاع عليها في كثير من البلدان التي جلب منها, وكان يحرق منها ما يعثر عليه, كما فعل بكتب أرشميدس العالم الشهير, إذ أحرق الروم منها خمسة عشر حملا.
وبالطبع لم يقتصر دور هؤلاء العلماء على الترجمة, وإنما قاموا بالتعليق على هذه الكتب، وتفسير ما فيها من نظريات, ونقلها إلى حيز التطبيق, وإكمال ما فيها من نقص, وتصويب ما فيها من خطأ, حيث كان عملهم يشبه ما يسمى بالتحقيق الآن, كما يفهم من تعليقات ابن النديم على بعض تلك الكتب.
وما إن انتهى عصر المأمون حتى كانت معظم الكتب اليونانية والهندية والفارسية وغيرها من الكتب القديمة في علوم الرياضة والفلك والطب والكيمياء والهندسة موجودة بصورتها العربية الجديدة بمكتبة " بيت الحكمة "، وفي ذلك يقول ول ديورانت صاحب كتاب " قصة الحضارة ": لقد ورث المسلمون عن اليونان معظم ما ورثوه من علوم الأقدمين, وتأتي الهند في المرتبة الثانية بعد بلاد اليونان.
ولكن للأسف هذا المعلم الحضاري، وتلكم المنارة أبيدت تحت وقع هجمات التتار الذين علتهم الهمجية, ولم يكنوا يقدرون العلم في شيء, إذ أحرقوا فور دخولها كتب العلم التي كان بها من سائر العلوم والفنون, وأفنى الناس أموالهم وأعمارهم طوال خمسة قرون في جمعها, وصنعوا ببعضها جسرا على النهر يعبرون عليه, وأعدموا آلاف الطلاب الذين أقبلوا من سائر العالم للدراسة بها,كما قتلوا آلاف العلماء الذين كانوا ينشرون العلم في ربوعها, وفقدت البشرية جمعاء وليست بغداد فقط كنزا من أعظم الكنوز, وكانت الخسارة على العالم أجمع عظيمة بحيث لا يعلمها إلا الله.
ومن العجب أن القليل من المؤلفات العلمية التي نجت من الدمار على أيدي هؤلاء الغزاة وغيرهم كانت من أهم أسباب النهضة العلمية الحديثة في أوربا, وقد شهد بذلك كثير من العلماء المنصفين في الغرب, ومن هؤلاء غوستاف لبون الذي قال: كلما تعمق المرء في دراسة المدنية الإسلامية تجلت له أمور جديدة, واتسعت أمامه الآفاق, وثبت له أن القرون الوسطى لم تعرف الأمم القديمة إلا بواسطة علماء المسلمين. . . ولقد عاشت جامعات الغرب خمسمائة سنة تنقل عن العرب وتتعلم منهم.
ومن هؤلاء أيضا سيدو الذي قال: إن علماء المسلمين هم في الواقع أساتذة أوربا في جميع فروع المعرفة, ورينان الفرنسي الذي قال: إن العلوم والحضارة مدينة بإزدهارها وانتشارها للمسلمين وحدهم طوال ستة قرون ", وبريفولت الذي قال: إن العلم هو أجل خدمة أسدتها الحضارة العربية إلى العلم الحديث, فالإغريق قد نظموا وعمموا ووضعوا النظريات, ولكن روح البحث. . وطرائق العلم الدقيقة والملاحظة الدائبة المتطاولة كانت غريبة عن المزاج الإغريقي, وإنما كان العرب هم أصحاب الفضل في تعريف أوربا بهذا كله. . . إن العلم الأوربي مدين بوجوده للعرب, وهذه الروح وتلك المناهج العلمية أدخلها العرب إلى العلم الأوربي, ويقول رينان الفيلسوف الفرنسي: إن العلوم والحضارة مدينة بازدهارها وانتشارها للمسلمين وحدهم طوال ستة قرون.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق