الثلاثاء، 28 أبريل 2015

حركة التأليف العربية

أول كتاب ظهر في العصر الإسلامي هو القرآن الكريم الذي تم جمعه في المرة الأولى في عهد الخليفة أبي بكر الصديق، وفي الثانية في عهد الخليفة عثمان بن عفان، وهو أول كتاب دون باللغة العربية.  
قبل منتصف القرن الأول للهجرة بدأت حركة التأليف العربية تخرج إلى حيز الوجود؛ فالمسعودي يروي أن معاوية بن أبي سفيان (ت60ه)، أول خلفاء العصر الأموي الذي امتد بين سنتي 40 – 132 هـ كان ينام ثلث الليل؛ ثم يقوم فيقعد، فيحضر الدفاتر، فيها سير الملوك، وإخبارهم؛ فيقرأ ذلك عليه غلمان له وكلوا بحفظها وقراءتها.  
        ويذكر بن سعد في طبقاته أن عروة بن الزبير (ت 93هـ،وقيل 94هـ) أحرق يوم الحرة (سنة 63هـ) كتب فقه كانت له.  ويعتبر عروة أول من ألف كتاباً في مغازي الرسول صلى الله عليه وسلم.  
لم تكن كل الكتب العربية التي جرى تأليفها خلال القرن الأول الهجري كتباً.  بالمعنى الصحيح؛ إذ لا تعد سوى مباحث مفردة، لا يتجاوز كل مبحث منها مسألة أو قضية يناقشها العالم.  فكان الكتاب كما يقول د.  الحلوجي بمثابة فصل من فصول كتاب من الكتب الحديثة.
        أما الحديث النبوي الشريف فقد مضى القرن الأول الهجري ولم يكن قد تم تدوينه رسميا وبشكل منظم، إذ بدأ جمعه في مطلع القرن الثاني للهجرة على يد ابن شهاب الزهري (ت124ه) بأمر من الخليفة عمر بن عبد العزيز؛ ثم عنى أبو جعفر المنصور بعد عمر بن عبد العزيز بتدوين الحديث، حيث أمر مالك بن أنس بوضع الموطأ.
        زاد التأليف؛ وبدأ يتجاوز حدوده القديمة منذ أوائل القرن الثاني الهجري؛ وذلك بعد ظهور حلقات الدرس، ومجالس الإملاء.  فابن شهاب الزهري (ت 124هـ) انقطع للتأليف حتى قالت عنه زوجته " والله لهذه الكتب أشد علي من ثلاث ضرائر" ومما يؤكد أن نشاط التأليف – رغم قلة مواد الكتابة وارتفاع أثمانها – قد بدأ فعلاً في القرن الثاني للهجرة النبوية ما أشار إليه النديم من أنه كان لهاشم الكلبي (ت 206هـ) أكثر من 120 كتاباً في شتى الموضوعات؛ وأن جابر بن حيان (ت200هـ) كان له حوالي 300 من الكتب والرسائل.
        مؤلفات صدر الإسلام كانت تتناول موضوعات كثيرة؛ إلا أن التركيز كان منصباً أكثر من غيره على الحديث وعلومه، والتقسير، والمغازي.  ولعل السبب في ذلك هو أن المسلمين كانوا مهتمين كثيراً في أمور دينهم؛ فوجدوا في التركيز على هذه العلوم ما يساعدهم على فهم القرآن الكريم وتقريبه لأذهانهم.
        يمكن القول بأن حركة التدوين والتأليف والنقل بدأت في العصر الأموي؛ إلا أن العصر الذهبي لهذه الحركة هو العصر العباسي.  هذا لا يعني إنكار أو جحد ما للأمويين من فضل كبير في المحافظة على اللغة العربية وكتابتها، وإثراء عصرهم بالمؤلفات في مختلف المجالات تدويناً وتأليفاً ونقلاً.  فالذين يصفون العصر الأموي بالجدب والقحل في النواحي العلمية والتدوين والتأليف والترجمة مثل حاجي خليفة، وجرجي زيدان، وغيرهما إنما هم أناس غير منصفين.
صحيح أن الإقبال على العلم وعلى التدوين والتأليف والنقل لم تكن بنفس القوة التي كانت عليها في العصر العباسي؛ ولكن لذلك أسباب معروفة ووجيهة؛ والتي من أهمها صعوبة الحصول على مواد الكتابة، وخاصة الورق، مقارنة بما كان عليه الوضع في العصر العباسي؛ إلا أن ذلك ليس مبرراً لبخس الأمويين حقهم، والتقليل من دورهم في هذه المجالات، فالنصف الثاني من القرن الأول الهجري كما يقول د.  الحلوجي قد شهد توسعاً في التدوين وكثرة الكتب، وأن الكتب في الربع الأخير من القرن الأول كانت قد كثرت لدرجة أن خلفاء بني أمية جعلوا لها خزائن خاصة؛ بل لا نكاد نصل إلى أوائل القرن الثاني للهجرة حتى نجد الكتب قد كثرت وشاعت بين الناس.  وهذه هي الحقيقة التي حاول ويحاول بعض الناس طمسها وإنكار وجودها؛ إذ لا يمكن أن تكون النهضة العلمية، وازدهار التأليف والترجمة في العصر العباسي قد قامت دون أساس، ونبعت من لاشيء.
يقول د.  محمد ماهر حمادة منصفاً العصر الأموي، ومدافعاً عنه: "ومن المستحيل وجود شجرة باسقة بدون جذور".  ثم يستشهد بكتاب "الموطأ" الذي ألفه الإمام مالك بإيعاز من الخليفة أبي جعفر المنصور فيقول: " وعلى الرغم من أن كتاب "الموطأ" يعود في تأليفه وخصائصه، وفترته الزمنية إلى العصر التالي – أي التالي للعصر الأموي، وهو العصر العباسي – إلا أن المؤلف استقى مادته من مؤلفات سابقة على زمنه، وعلى كتابه، كما هو واضح من الكتاب نفسه، ومن إشاراته.  وهذا دليل قوي على وجود مؤلفين سابقين على زمان الإمام مالك؛ وعلى أن التأليف الأصيل قد بدأ في هذا العصر – أي العصر الأموي- "
        والحقيقة التي لا ينكرها إلا مغالط وجاحد أن العصر العباسي هو استمرار للعصر الأموي ومكمل له.  نعم لقد زرع الأمويون حقاً بذور النهضة العلمية التي تفتحت وأينعت وازدهرت في عصر بني العباس.  ولقد لعب الورق الذي بدأ العرب في تصنيعه بعد فتح سمرقند دوراً بارزاً وحاسماً في ازدهار التأليف، وغزارة الإنتاج الفكري المدون في العصر العباسي.
        كان النشاط الثقافي والعلمي في العصر الأموي متمركزاً في دمشق مقر الخلافة الإسلامية؛ ولكن بعد سقوط دولة بني أمية سنة 132 هـ انتقل مقر الخلافة من دمشق إلى بغداد بالعراق؛ ومعها انتقل النشاط الثقافي والعلمي؛ إذ أصبحت بغداد المركز الأول للحركة الفكرية، حيث ازدهر التأليف واتسعت الترجمة بشكل متسارع، بل ومذهل؛ لأن ما تحقق في هذين المجالين بالذات صار سمة من سمات ذلك العصر؛ وعلامة من العلامات البارزة والمميزة التي نالت الإعجاب والإكبار؛ وسجلها التاريخ للخلفاء العباسيين بأحرف من نور.
        إن العصر العباسي كما أسلفنا هو بحق العصر الذهبي الذي برزت فيه المواهب وتطور الإبداع في كثير من مجالات الحياة الفكرية.  ولا شك أنه كان للاهتمام الكبير، والتشجيع المستمر، والدعم المتواصل المادي والمعنوي من قبل كثير من الخلفاء العباسيين، وولاتهم، ووزرائهم دور قوي وفعال في دفع عجلة تلك النهضة إلى الأمام؛ ناهيك عن استقرار المجتمع الإسلامي، ووفرة المال، وانتشار الورق وغيره من مواد وأدوات الكتابة، وبأسعار رخيصة مما أدى إلى رواج الكتب، وبالتالي تسابق الوراقون إلى افتتاح حوانيت لهم للمتاجرة بها، مما نتج عنه ظهور مهنة أو صنعة الوراقة.  
        وكنتيجة حتمية لانتشار الكتب؛ وللتلازم الذي يربط بين الكتب والمكتبات فقد انتشرت منذ ذلك الحين المكتبات بجميع أنواعها تقريباً.  وتشير المصادر إلى أن أول مكتبة عربية ضخمة ظهرت في بغداد أواخر القرن الثاني الهجري هي المسماة بـ (بيت الحكمة) أو (دار الحكمة).  وتلك المكتبة كما يصفها المؤرخون لم تكن مجرد مكتبة تكدس فيها الكتب؛ بل كانت مركزاً للثقافة والعلوم؛ ومنتدى للعلماء والأدباء وطلبة العلم.  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق