بداية الترجمة عند المسلمين
عندما الإسلام ظهر لم يطلب من العرب
التقوقع والانعزال عن العالم؛ بل حثهم على الاتصال بالأمم الأخرى ودعوة شعوبها
للدين الجديد؛ لأنه – أي الدين الإسلامي- ليس للعرب وحدهم؛ فكانت الفتوحات الواسعة؛
وانتشارهم لنشر الدعوة الإسلامية، وبالتالي اختلاطهم بالأجناس الأخرى في المجتمعات
غير العربية؛ ونتج عن ذلك اندماج وتفاعل؛ وتأثر وتأثير؛ وخاصة في اللغة والمجالات
العلمية والثقافية؛ فأفاد العرب كثيراً بما نقلوه من علوم الأمم الأخرى المجاورة
لهم إلى اللغة العربية.
ظهرت أهمية الترجمة، وفهم اللغات مع ظهور
الإسلام؛ فقد حث الرسول صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه على تعلم لغات الأمم الأخرى؛
ومن ذلك أنه أمر زيد بن ثابت الأنصاري بأن يتعلم اللغة العبرية والسريانية، وأنه –
أي زيد – كان يعرف الفارسية، والرومية، والقبطية، والحبشية؛ كما كان يترجم ما يأتي
للرسول صلى الله عليه وسلم بهذه اللغات. لكن الاهتمام الأكبر بلغات الأمم المجاورة للعرب،
وبعلومهم وحضاراتهم إنما جاء بعد التوسع الكبير في الفتوحات الإسلامية؛ حيث تم نقل
كثير من المؤلفات اليونانية، والسريانية، والفارسية. يقول د. علي نملة: " جاورت بلاد العرب أربع أمم كبرى
كان لها أثر بارز في نقل العلوم إلى العربية، هي: اليونانية الإغريقية والسريانية
الشرقية، والفارسية، والهندية. وكان وسطاء
النقل من اليونانية والسريانية هم العلماء والأطباء النصارى من يونان وسريان،
والذين كانوا يومذاك في خدمة الخلفاء الأمويين. ويشير فؤاد سزكين إلى أن الترجمة من الفارسية
إلى العربية سبقت الترجمة من السريانية إلى العربية.
الترجمة في العصر الأموي بدأت مع أول
خليفة أموي، وهو معاوية بن أبي سفيان (60هـ)؛ إلا أنها كانت –كما يبدو- ضعيفة
نسبياً. يقول علي نملة مؤكداً وجود
الترجمة في عهد معاوية: ". . . وكان
لديه من ينسخون له الكتب التي يبدو أنها مترجمة عن اليونانية، واللاتينية،
والصينية، على أثر استلامه لهدية من ملك الصين. . . ".
لكن الذي قفز بالترجمة في العصر الأموي
قفزات قوية إلى الأمام هو خالد بن يزيد بن معاوية (ت85هـ) وكان يسمى حكيم آل مروان؛
إذ أحب العلم كثيراً، وآثر التفرغ له على الخلافة، وقد اهتم اهتماماً كبيراً بنقل
الكتب العلمية من اللغات الأجنبية إلى العربية، حتى أن النديم اعتبر النقل الذي
بدأ في عهد خالد هو أول نقل في الإسلام من لغة إلى لغة. ولقد ساعده على ذلك وجود مكتبة ضخمة ورثها عن
جده معاوية؛ بالإضافة غلى كونه محباً للعلم، وعلى دراية بالطب والكيمياء؛ حيث ألف
فيهما وفي غيرهما من العلوم رسائل أشار إليها النديم في الفهرست، وابن خلكان في
وفيات الأعيان. لقد أنشأ خالد ما يمكن
اعتباره مركزاً للنقل المنظم؛ فقد أحضر جماعة من فلاسفة اليونان وغيرهم، فترجموا
له من اليونانية، والسريانية، والقبطية، والفارسية وممن تولى الترجمة في عهده
ماريو حنا الدمشقي، ويسمى –أحياناً- "مريانوس" الذي كان صديقاً ليزيد بن
معاوية، ومعلماَ لخالد بن يزيد. أيضاً
ترجم لخالد عن اليونانية الراهب اصطفن القديم. كما ترجم له جبلة بن سالم عدداً من الكتب من
الفارسية إلى العربية. كذلك كان لعدد من
الخلفاء الأمويين أمثال مروان بن الحكم، وعبد الملك بن مروان، والوليد بن عبد
الملك، وعمر بن عبد العزيز، دور في النقل من اللغات الأجنبية إلى العربية، إلا أن
أدوارهم في هذا المجال كانت متفاوتة.
وممن أشتهر بالترجمة في أواخر العهد
الأموي وأوائل العصر العباسي عبد الله بن المقفع، الذي يعتبر أحد أعمدة الترجمة من
الفارسية إلى العربية، إذ نقل كثيراً من كتب الفرس إلى اللغة العربية، ومنها كتاب
"كليلة ودمنة".
بعد سقوط الخلافة الأموية في دمشق، وتأسيس
الخلافة العباسية في بغداد انتقل مركز النقل الرئيسي إلى هناك؛ حيث اتسعت الترجمة
أكثر وأكثر بفضل الدعم المادي والمعنوي، والتشجيع المستمر والقوي؛ خاصة زمن
الخلفاء أبي جعفر المنصور، وهارون الرشيد، وعبد الله المأمون. فالمنصور يعتبر أول خليفة عباسي أولى النقل
رعايته واهتمامه؛ إذ كانت حركة الترجمة قد خبت في أواخر العصر الأموي؛ إلا أن
المنصور نهض من كبوتها؛ فقد استقدم عدداً من العلماء، والأطباء؛ وفرغهم لأعمال
الترجمة؛ منهم على سبيل المثال الطبيب اليوناني جورجيوس بن جبرائيل (بن يختيشوع)،
وتلميذاه إبراهيم وعيسى بن شهلا حيث ترجموا عدداً كبيراً من الكتب اليونانية،
والسريانية، وخاصة في مجال الطب.
كما اهتم المنصور بترجمة الكتب الهندية في
مجالات الطب، والعلوم، والكيمياء. وممن
تولى ترجمة الكتب الهندية في عهده: "منكة" الهندي، وإبراهيم بن حبيب
الفزاري.
كان المنصور ينفق على الترجمة بسخاء منقطع
النظير، حتى قيل أنه كاد يُعرض الأموال العامة للخطر لكثرة ما كان يدفعه للمترجمين
من العلماء.
ازدهرت الترجمة كثيراً في عهد الخليفة
هارون الرشيد؛ إلا أن العصر الذهبي للنقل من اللغات الأجنبية كان في عهد ابنه المأمون.
من أشهر مراكز الترجمة في العصر العباسي
الأول مكتبة "بيت الحكمة " في بغداد. فقد كانت منتدى العلماء والأدباء، والدارسين
والباحثين لكثرة ما فيها من الكتب، وما يقدم فيها من خدمات وتسهيلات. وكانت إلى جانب ذلك كله مسرحاً لأكبر حركة ترجمة
في التاريخ العربي. فقد كان الرشيد
والمأمون مثقفين ثقافة عالية؛ ولهما ولع واهتمام بما هو مدون من علوم وتراث الشعوب
التي للعرب صلات بها؛ فأمر بنقل ذلك إلى اللغة العربية ليتمكن العرب من الإستفادة
منها.
ويقال أن الرشيد كان يتعمد غزو المدن الممتلئة بالكتب النفيسة
والنادرة لكي يستولى على كتبها. وكان
يستعمل حملاته العسكرية، خاصة على بلاد الروم لهذا الغرض. يقول محمد ماهر حمادة: لعله –أي الرشيد- هو الذي
بدأ تلك الحملات العسكرية، ذات الهدف العسكري، وفي نفس الوقت ذات الهدف العلمي،
بقصد جلب نفائس المخطوطات اليونانية إلى بغداد لتعريبها. . . وكان يتجه إلى المدن اليونانية المشهورة بأنها
معاقل الثقافة اليونانية، كعمورية، وانقره. . وغيرها، ويجعل من بين شروط الصلح الحصول على
الكتب التي كان يريدها.
كان يتولى الترجمة في بيت الحكمة عدد كبير
من العلماء، ويقال أن الرشيد عهد إلى يوحنا بن ماسوية، وهو طبيب نصراني، كان يعتبر
شيخ النقلة، بالإشراف على الترجمة في الدار، حيث كانت تتم عملية ترجمة الكتب
القديمة التي جلبها المسلمون من بلاد الروم. أما الكتب الفارسية فقد عهد الرشيد بمهمة نقلها
إلى العربية إلى أبي سهل الفضل بن نوبخت؛ وهو من أصل فارسي؛ ويعتبر من أئمة
المتكلمين.
فاقت الترجمة في عهد عبد الله المأمون ما
كانت عليه في عهد والده هارون الرشيد؛ ولا غرابة في لك، فقد كان المأمون شغوفاً
غلى حد كبير بالعلم محباً للعلماء والأدباء؛ حريصاً جداً على جمع الكتب وترجمتها. وكان يرسل البعثات إلى ملوك زمانه بحثاً عن
الكتب القديمة والنفيسة. سار المأمون على
نهج أبيه بأن جعل الصلح مع أعدائه أن يسلموه ما لديهم من كتب نفيسة، كما حصل مع
حاكم صقلية؛ ومع الإمبراطور البيزنطي ميخائيل الثالث؛ ومع حاكم قبرص؛ حيث تم نقل
الكثير من أفضل وأنفس الكتب من قبرص، وصقلية، وبيزنطة، إلى بغداد، عاصمة الخلافة
العباسية.
ولقد توفر لحركة الترجمة في عهد الخليفة
المأمون من المترجمين ما لم يتوفر في عهود من سبقه؛ إذ حشد لهذه المهمة الجليلة
أكبر عدد من العلماء؛ نذكر منهم بن ماسوية؛ الذي يقال أن المأمون أيضاً بعد والده
جعله رئيساً للترجمة في بيت الحكمة؛ وحنين بن إسحاق الذي عهد إليه المأمون بمراقبة
النقل من اليونانية إلى العربية؛ ويوحنا البطريق، والحجاج بن مطر، وقسطا بن لوقا،
وبن النوبخت العبادي وغيرهم كثير.
لم
يكن النقل من اللغات الأجنبية إلى العربية خالٍ تماماً من العيوب والأخطاء؛ لكنه
أيضاً لم يكن يتم عشوائياً وارتجالاً؛ بل كانت هناك مراجعات لما يتم ترجمته. وكان للعلماء النقلة دور في التصويب والإضافة؛
وإيجاد المصطلحات العربية البديلة والمناسبة. يقول د. عبد الستار الحلوجي عن حنين بن إسحاق ". .
. ويحدثنا بن جلجل أن حنيناً هذا هو الذي
أوضح معاني كتب بقراط، وجالينوس؛ ولخصها أحسن تلخيص؛ وكشف ما استغلق منها، وأوضح
مشكلها " كان المترجمون إلى جانب عملهم هذا مؤلفين؛ فهم علماء لهم شهرتهم في
الطب، والصيدلة، والكيمياء، وغيرها من العلوم وخاصة العلمية منها. فإبن النديم يذكر ليوحنا بن ماسوية 19 كتاباً في
الطب، ولحنين بن إسحاق 30 كتاباً؛ ولقسطا بن لوقا البعلبكي أكثر من 30 كتاباً.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق